فلسطين أون لاين

​لتضمن رضاهما تعرَّف إلى "البر" من منظور والديك

...
غزة - فاطمة أبو حية

قد يبذل الابن جهودًا كبيرة في سبيل نيل درجة "بار"، ويفعل كل ما بوسعه ليرى في عيون أبويه نظرة رضا، ولكنه لا يجد في نهاية المطاف سوى خيبة أمل تشعره أن جهوده ضاعت سُدى، لأنه لم يرتقِ إلى درجة رضا الوالدين التي يسعى إليها، في حين ينال بعض الأبناء هذه الدرجة بجهد أقل، ذلك لأنهم عرفوا "من أين تُؤكل الكتف"، ووضعوا أنفسهم مكان آبائهم وأمهاتهم، ثمّ فعلوا ما يريدونه منهم.

يقول بعض إن بر الأبوين يكون بما يدخل السعادة عليهما، وبما يريانه هما برًّا، لا بما يراه الابن، فقد يقدم الابن الهدية لأبيه الذي ينتظر الكلمة الطيبة فقط، وربما يظن الابن أن المصروف الشهري هو عين البر، لكن أبواه ينتظران منه السؤال عنهما، وما يسعد أبًا لا يسعد أبًا آخر، وما يُدخل السرور على قلب أم قد يؤلم قلب أم أخرى، ومن هنا يتعين على الابن أن يتعرف إلى ما يريده أبواه ليدخل إليهما منه، في هذا التقرير نتناول بر الوالدين بهذا المفهوم.

ثم أصبحتُ بارَّة

الثلاثينية "مروة رزق" تقول: "إن والديّ كثيرًا ما يؤكدان رضاهما عني، ويصفاني بأني الأكثر برًّا لهما من بين إخوتي"، مضيفة: "لم أكن كذلك حتى قبل أربع سنوات مضت، فلم أكن أفلح في نيل رضاهما مع حرصي الدائم على ذلك".

وتتابع: "كنت أبذل جهدًا كبيرًا في بر أبي وأمي، ولكن كانت النتيجة دومًا أن جهودي تضيع هدرًا، ولا أجد أي انعكاس إيجابي لما أفعله على مستوى رضاهما عني، بل كثيرًا ما كنت أقع في خلافات معهما"، مواصِلةً: "في السنوات الأخيرة غيرتُ طريقتي في التعامل معهما، وبتّ أبحث عمّا يريدانه مني لأفعله، بدلًا من فعل ما أراه أنا برًّا من وجهة نظري".

وتضرب أمثلة على الاختلافات بين ما كانت تفعله وما يريده والداها: "هما لا يريدان إعداد كوب من الشاي عندما يطلبانه مني فحسب، وإنما يسعدان أكثر إن عرضت أنا عليهما إعداده أو إعداد أي شيء آخر، وأيضًا تبين لي أن الهاتف الذكي عدّو لهما، لذا أصبحت أتركه تمامًا طوال ساعات جلوسي معهما، وإذا ما سمعت بأن أحدهما يفكر باشتراء شيء ما كقطعة ملابس مثلًا؛ أسارع إلى اشترائها هدية له، ما يشعرهما بأنني أفكر فيهما باستمرار، وشعورهما هذا هو ما يجعل الهدية تدخل السرور عليهما، مع عدم حاجتهما لها من الناحية المادية".

أما الشاب "عبد الرحيم ربيع" فلم يجد الطريقة المناسبة لنيل الرضا بعد، إذ يقول: "أفعل ما بوسعي لأنال رضا أبي وأمي، ولكن لا أشعر بأني وصلت إلى درجة عالية من هذا الأمر"ـ

ويضيف: "أزورهما عدّة مرات في الأسبوع، وأتصل بهما يوميًّا عبر الهاتف، وأقدم لهما الهدايا بين الحين والآخر، وأفعل الكثير مما يمكنني فعله، ولكني حتى الآن لم أهتدِ إلى ما يجعلني بارًّا في نظرهما، خاصة أبي".

من منظورهما

ويقول الاختصاصي النفسي الدكتور إياد الشوربجي: "بعض الأبناء يصنف نفسه بأنه بار بوالديه، لكن أبواه لا يريانه كذلك، وذلك لأنه يفعل ما يراه برًّا من منظوره، وهما ينتظران منه شيئًا آخر".

ويضيف في حديثه لـ"فلسطين": "هناك من يكتفي بالزيارات اليومية للأهل، أو يلتزم بتقديم مصروف شهري لهم، أو يتوقف تعامله معهم على تلبية طلباتهم، أو غير ذلك مما يراه الابن عملًا كافيًا لبر أبويه ونيل رضاهما، في حين تكون الحقيقة أن والديه يتمنيان عليه فعل شيء آخر تمامًا يغفل هو عنه".

ويتابع الشوربجي: "على الابن أن يحرص على التعرف إلى يريده أبواه منه، ويعتمد في برّه لهما على منظورهما لا على منظوره، وأن يجعل رغباتهما العامل الثاني مباشرة بعد قواعد الشرع، التي يتعين عليه الاستناد إليها في تلبية احتياجاتهما وتجنب إغضابهما، ومعرفة ما يدخل عليهما السرور، وتفقد أحوالهما".

ويشير إلى أن الوالدين يختلفان في رضاهما عن الابن؛ فما يرضي الأم قد لا يرضي الأب، ما يعني أن متطلبات البر تختلف من شخص إلى آخر، حتى داخل البيت الواحد، ومن هنا يتعين عليه أن يقدّر ويحدد ما يرضي والديه، وما يثير استياءهما.

وبحسب ما يبين الشوربجي إن الفوارق بين الأجيال سببٌ في عدم معرفة بعض الأبناء احتياجات الآباء والأمهات، فلكلٍّ من الطرفين مقاييس يستند إليها في تقدير البر والعقوق.

ويقول: "قديمًا كانت مبادئ الاحترام والطاعة للأبوين مزروعة بقوة في الأبناء، ولكن اليوم اختلف مفهوم بر الوالدين، وثمّة فجوة كبيرة بين جيل الآباء وجيل الأبناء، وذلك بحكم التغيرات الكثيرة بين عصر كل منهما، خاصة التطور التكنولوجي، فمثلًا قد يظن الابن أن إرسال رسالة عبر الهاتف النقال إلى أبويه كافٍ لنيل رضاهما، لكن هما يريانه مقصرًا بحقهما".

ويلفت إلى أن معظم الآباء والأمهات يرغبون بالحصول على التقدير المعنوي من الأبناء أكثر من التقدير المادي، قائلًا: "غالبًا ما يحتاج الآباء إلى من يتفقد أحوالهم، ويتحدث معهم، ويستمع إليهم، فالكلمة الطيبة لها بالغ الأثر على نفسية كبار السن".

ويؤكد الشوربجي أن للآباء دورًا في دفع الأبناء نحو البر أو العقوق، إذ عليهم أن يعطوهم الفرصة للبر وتهيئة الظروف لذلك، دون تحميلهم طلبات قاسية بطريقة توقعهم في معصية العقوق، فبعض الآباء يستغل فكرة الطاعة والبر بطريقة غير صحيحة ترهق كاهل الابن.