لم تكن الأربع كاميرات بيد هبة لتصور مشاهد العنف والتنكيل والقهر البشع الذي تتعرض له، كانت الأربع كاميرات تُطلّ عليها من الزوايا الأربعة للزنزانة، ونعلم أن تقنيات الكاميرات الحديثة قادرة بكاميرا واحدة أن تجوب كل مساحات الزنزانة الواسعة! ما الداعي لأربع كاميرات؟ هو إمعان في إشعار الضحية بالامتهان وافتراس الخصوصيات إلى أبعد مدى ممكن، هم يعرفون حساسية كونها امرأة ومع ذلك يُمعنون في الانتهاك والاعتداء الصارخ على كل مكونات المرأة الحرّة، هم يقصدون إيصال رسالة بليغة بلغة فصيحة لنا جميعًا، لكل معاني الرجولة فينا، لكل ما تبقى لدينا من نخوة أو قدرة على الإحساس المرّ وتذوق العلقم، وهل ما زال لدينا بقايا قدرة على الانتصار للمظلوم؟ أين نحن من أعراضنا وحرماتنا ومناطق الحساسية للكرامة في وجودنا؟
أعملوا ماكينة العذاب والقهر على روح هبة ولم يتركوا شاردة أو واردة من قاموس عذابهم إلا وأخرجوه لها. حكت لنا عن رحلة الآلام وصلب الروح والضرب على كل مناطق الألم النفسي والجسدي، من زنازينهم القذرة والشبح المتواصل على ذات الكرسي الذي استشهد عليه خالد الشيخ وعبد الصمد حريزات، هو ذات النفق المظلم الذي زجوا به سامر العربيد وما زال، حكت لنا تعاقب فريق المجرمين كلّ بما يبدع من وسائل القهر والقتل النفسي، حكت لنا كلماتهم النابية التي لا وجود لها إلا في قاموسهم وقواميس عالمهم السفلي المنحطّ، حكت لنا تهديدهم ووعيدهم الذي يفوق خيال أعتى المجرمين، حكت لنا مواخير مكرهم وخبثهم الذي أبدعته عقولهم المسكونة بالحقد والكراهية والعنصرية البغيضة، هذه المواخير التي نحتوا لها اسم العصافير ليظهروا خلاف ما تبطن.. حكت لنا عن تعاقب الليل والنهار في زنازين لا ليل فيها ولا نهار، فيها تسكن الحشرات والجراذين التي أنبتوها نباتا سيئا في أوكارهم هذه ، حكت لنا باقتضاب ما تعانيه المرأة بخصوصية لباسها ووضعها البيولوجي وحمامها، هل ندرك ماذا يعني أن يكون الحمام مكشوفا فاضحا للعورة؟ هل يدركون ماذا يعني للمرأة العربية أن يزرع سقف زنزانتها بأربع كاميرات؟
الأمر مهين بل في غاية المهانة واستفزاز النخوة والكرامة، ما كان لهم أن يتجرؤوا على كل هذا لولا تقديرهم الأعمى أن أمتنا الى الموت أقرب منها الى الحياة، فأمة لا تثور لكرامة نسائها أمة لا تستحق الحياة ولا تستحق إلا الاحتلال والمزيد من قمعه وبطشه وصلفه.. هكذا هم يقدرون وهكذا يجسّون نبضنا فيجدونه ميتًا لا حياة فيه ولا حرارة ولا قدرة لنخوة معتصم ولا حتى نخوة أبي جهل!!
هم بمجساتهم الحقيرة وصلوا الى هذه النتيجة فبالغوا في استبدادهم وارتقوا الى أعلى قمة تبلغها أحقادهم، ولكن هذه المجسات وتلك الكاميرات ستجني عليهم وستقودهم إلى غلوّ جنونهم وبلوغ أبعد مدى في استحمارهم لنا ولأمتنا، وما هذا إلا نذير لنا وفتح جديد على موارد نخوتنا وصدقنا مع قضيتنا وتحديات وجودنا.. هبة اللبدي اليوم وسامر عرابيد وكل ضحاياهم، والقمع غير المسبوق الذي شهده النقب بداية هذا العام ما هو إلا ارهاصات الانتصار للكرامة القادمة.
حتما ستثور مكنوناتنا التي طال عليها الأمد، حتما سيلاقون من هذه الأمة العظيمة ما يليق بها وبتاريخها العظيم وقدرتها على الإشراق من جديد مهما ادلهمت خطوبها، درجة الاستفزاز العالية هذه على أسيراتنا وأسرانا وعلى كل مكنونات كرامتنا حتما ستثمر، حتما ستتحرك ، وحتما اذا تحركت ستنتصر.