كان للربيع العربي في العام 2011 وقع السحر على الشعوب العربية التي ما ألفت هذه الحراكات الواسعة التي تنادي بحرية الشعوب وانعتاقها من ربقة الحكم الدكتاتوري الذي جثم على أنفاسها منذ استقلالها بدايات القرن الماضي، فامتداد فترة الحكم الدكتاتوري للشعوب العربية والاستكانة الظاهرة من قبل الشعوب ولّد قناعة للكثيرين بأنه قد أصبح من سمت الشعوب العربية الاستسلام للحكم الدكتاتوري المطلق حتى وصلت القناعة بهم إلى الاعتقاد بأن جينات العرب تتنافر مع الحكم الديمقراطي، لأنها لا تسطيع العيش إلا تحت وطأة حكم شمولي متسلط، وقد صرح يومًا أحد الممثلين العرب الذي حظي بشهرة عالمية لأحد الرؤساء الأمريكان بذلك حينما قال له: (نحن العرب لا نستطيع أن نعيش إلا بوجود حاكم قوي يحكمنا فنحن لا نعرف العيش بالديمقراطية). لذلك كانت ثورات الربيع العربي بمثابة حالة تحرّر جديدة من استعمار من نوع مختلف عن الاستعمار القديم الذي حكم الشعوب العربية لسنوات طوال فكان استعمار من طغم حاكمة ظنت أنها تمتلك حق الحكم الحصري للأبد، فهي ترى في نفسها قدرة ملهمة على الحكم لا يتأتى لأحد سواها....
ورغم أنّ ثورات الربيع العربي انتكست بفعل عوامل عدة من أبرزها تحالف إقليمي يمتلك ميزات مالية أهدِرت بسخاء من أجل إحباط هذه الحركة النهضوية العربية... فقد استحكمت حلقات هذه المؤامرة حتى ظننا جميعًا أنه كان حلمًا جميلًا مر كسحابة صيف.. ولكن كان للشعوب كلمة أخرى وأثبتت الشعوب العربية مرة أخرى أنها ما زالت على العهد ماضية وأن توقها للحرية لم تكن رغبة عابرة ولا هي مغامرة غير محسوبة... وعادت روح الربيع العربي تجتاح العواصم العربية من جديد لترمّم ما أفسدته المنظومة الرجعية وتكرّس واقعًا جديدًا عنوانه أن العرب لم ولن يقبلوا بالعودة للماضي الكئيب والاستكانة للحكم الدكتاتوري الفاسد، أي كانت الشعارات التي يتغطى بها... فلا الشعارات الثورية عاصمة له.. ولا التمسح بالإسلامية تحميه... ولا دعاوى الاستقرار والنمو الاقتصادي تجدي نفعًا... فالجماهير العربية تتحرّك للأمام صوب هدف واحد هو الحكم الديمقراطي، والذي من خلاله فقط تتحقّق كل تطلعات الشعوب من حرية وكرامة ونمو اقتصادي ومكان محترم تحت السماء وعلى رقعة مصانة من البسيطة..
ولعل ما ينبغي قوله إنّ تصور البعض المترسخ بأن الحراك الشعبي العربي سيولد بالضرورة اتجاهًا فكريًا معينًا هو وهم لا بد من تبديد تشابكاته، فقد أثبتت الحقائق على الأرض أن الدكتاتورية تجلت في أشكال اتخذت أبعادًا فكرية مختلفة من إسلامية إلى قومية إلى ليبرالية.. وكلّها لم تكن على قدر يؤهلها للحكم بشكل يؤدي للتطور الحضاري والاقتصادي، كما شهدت دول أخرى في العالم كانت ظروفها أقرب ما تكون لواقع الدول العربية، مثل: أندونيسيا وماليزيا وتركيا.
والحقيقة أن الحركة الديمقراطية تدفع للحكم من هو أصلح وأجدر فقط بغض النظر عن الفكر الذي يحمله أو ينادي به، والشعوب رقيب حسيب على الأفعال والأقوال، فمن كان لديه بضاعة كاسدة فلا يعرضها على الشعوب، لأنها سئمت غش تجار السياسة وأصبحت قادرة على التمييز بين الغث والسمين فلا تستغربوا أن تختار الشعوب شخصًا من بقايا نظام قديم لأنها رأت فيه أنّه يسير بها نحو التطور الحضاري المنشود أو ربما صاحب فكر إسلامي ترى فيه معزّزًا لقيم مفقودة أو ليبرالي يدعو للحرية والديمقراطية فلا تلوموا الشعوب على خياراتها ولا يلومنّ أحد إلا نفسه، فالشعوب ستحترم من يحترمها وستقصي من يمتهن كرامتها أو يستخفّ بتطلّعاتها وليعلم كلّ من يرى في نفسه زعيمًا ملهمًا أن العصر الفرعوني "لا أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد" أصبح من إرث الماضي الكريه الذي ستدرسه الأجيال القادمة كحلقة سوداء من تاريخ الأمة.