سالم بادي معتقل مخضرم ذاق من ويلات الاعتقال الإداري ما يزيد على خمسة عشر عاما، هكذا سرقوا من عمره هذه الفترة المديدة ، ولو أنه قضاها على فترة واحدة معروفة الحكم كما في الاعتقال العادي لكان ذلك أهون بكثير، اذ هي حرب نفسية في كل مرة ، يجيدون رمي شباكهم عليه وعلى أهله، ويجيدون رسم لعبة جهنمية يضربون بها على الاعصاب بكل صلفهم وساديتهم المقيتة، كلما أراد أن يتنسم رائحة الحرية وكلما جاشت المشاعر وبلغت القلوب الحناجر واستنشق القلب رائحة البيت ورأى فرحة أمه وأبيه وأخواته وإخوته وكل أحبابه كانت الصدمة ليعاد الى السجن من جديد بتجديد فترة جديدة. هذه هي فلسفتهم في الاعتقال الاداري مشنقة مفتوحة للنخبة في الشعب الفلسطيني كي يكونوا عبرة لكل من أراد أن يعتبر.
هناك من يتنعم بالـVIB وهناك من يُعذّب بالاعتقال الاداري ، وبقية الناس ينظرون الى هذا وذاك فإما أن يسير في طريق النعيم أو أن يختار طريق جهنم الاعتقال الاداري. وهذه السياسة الاستعمارية المعروفة سياسة العصا والجزرة، هناك من يرضخ بالجزرة وهناك من يرضخ بالعصا والنتيجة شعب مهزوم يتمتع بقابلية الاستعمار، ولقد أثبتت التجارب أن شعبنا سرعان ما يقلب طاولة الاحتلال ويرفض الخضوع والاستسلام لكل سياساتهم المجرمة.
سالم مثال صارخ على ساديتهم المفرطة، اعتقاله الأخير لم يجيدوا فيه تطريز تقريرهم وحبك افتراءاتهم، وعلى فكرة كلمة تطريز التقرير تعيد براعة الاختراع لهم، كانوا يهددوننا بأنهم قادرون على تطريز تقرير يودي بنا بحكم عال بحيث "نُخمّج" في السجن وكلمة "نُخمّج" هي ايضا من مصطلحاتهم. المهم اعتقلوا سالم قبل أن يطرّزوا التقرير المطلوب للمحكمة ، اختطفوه في غسق الليل من بيته بمداهمة مرعبة معروفة كعادتهم، اقتادوه الى السجن ثم الى المسكوبية علّهم يجدون شائبة يتعلقون بها في صياغة تقريرهم الذي يودي به في غياهب السجون ما شاء لأمزجتهم العفنة أن يكون.
رفاق الأسر أوصوا سالم بالهدوء والدبلوماسية خروجا عن عادته النارية في الردّ على سخافاتهم: تحلَّ بالحكمة والهدوء يا سالم، سألوه بداية عن الاخبار السياسية، أجاب بهدوء : لست مراسلا صحفيا لديكم. سألوه عن عملية عسكرية سبقت اعتقاله أجابهم: لم أسمع بها. ضحك بملء فيه ولم يستطع ان يكون هادئا حكيما أمام هذا السؤال. وتجسّد المثل "حوار الطرشان" في هذا التحقيق، كانوا في عالمين مختلفين، مجرم مهووس يبحث عما يشبه التهمة أو إساءة الظن، وطاهر نقي يرى بنور قلبه سوادهم القاتم البهيم الذي لا بصيص أمل فيه ولا رجاء. أمعنوا أحقادهم، قلبوا دفاترهم ولما لم يجدوا شيئا رموه باعتقال اداري لمدة ثلاثة شهور كدفعة اولى على الحساب ، لم يكتبوا شيئا ولم يجدوا ما يدعو للاعتقال ومع ذلك قرروا اعتقاله .
أمهلم القاضي ثمانية عشر يوما ليجدوا شيئا يكتبونه في الملف ولو من كذبهم وافتراءاتهم . ولأن قدر الله فوق اقدارهم ولأن الله غالب على أمره ووفق حسابات المعتقلين الاداريين المضربين عن الطعام وما يشكلونه من أزمة أخلاقية تحيط بهم من كل جانب، فإن إضافة هذا المخضرم ستفتح اضرابا جديدا على تلك الاضرابات وستكون خسارة لهم غير محسوبة، لذلك فقد اختاروا هذه المرة أخف الأضرار عليهم وهو اطلاق سراح سالم .
كانت حبسة قصيرة نجح سالم بأن يكون نِدّا عنيدا وخصما ذكيا انتزع فرجه من براثن الاعتقال الاداري ومن تحت مشنقته المريعة .