نحتاج إلى وقفة تأمل أمام صندوق الانتخابات كيف حاله عند أعدائنا، وكيف يكون حاله عندنا؟
يا له من صندوق عجيب، يحلّ كلّ العقد، تضطرب الأحزاب، تصول وتجول وترغي وتزبد، يعلو صوتها وصخبها ويرتفع بها الغضب، تطلق نذرها للحرب وسحق الخصوم وتذليل الرقاب والعباد، يصل بها الأمر أنها ترى نفسها: أمّ السياسة والوطن، هي الأجدر والأمثل لقيادة البلاد لتصل بها مقدمة الأمم، وغيرها لا عهد لها ولا فهم ولا قدرة ولا خبرة لتتسلم مقاليد الحكم ولتدير شئون البلاد، تنظر إلى مشهد الأحزاب فترى إرهاصات حرب مدمرة تأكل اليابس والأخضر.
ثم تجد كل هذا الاشتعال والغضب يخر راكعًا أمام هذا الصندوق، ينتظرون النتيجة منه ويسلمون تسليمًا لمقولته الحاسمة، يُنفّس عن صدور الأحزاب غضبها، ويفتح لها قناة للتفريغ النفسي والرضا التام عما قرره هذا الصندوق السحري العجيب.
لقد سجل هذا الاختراع العجيب بعد قرون من الحروب الدموية التي راح ضحيتها ملايين البشر، كانت أوروبا والعالم أجمع يعج بالحروب الأهلية الطاحنة بغية الوصول إلى كرسي الحكم، ثم تطورت هذه المجتمعات وأنتجت الديمقراطية التي أودعت كل أسرارها هذا الصندوق، كل القيم الديمقراطية من إعادة الاعتبار للشعب ورأي المواطن وحرية التعبير، وفتح المجال على مصراعيه للصراع الإعلامي في الدعاية للأحزاب وبرامجها وشعاراتها الانتخابية بديلًا حضاريًّا للصراع الدموي وتحكيم شريعة الغاب، ثم يأتي أخيرًا المواطن ليضع صوته في الصندوق، وليكشف الصندوق بعد ذلك من اختاره الشعب ليحكمه، أليس ذلك أفضل من أن تحسم البندقية الأمر فيحكم البلد من يستقوي على الشعب؟!
لقد وجد العالم أن الحل الأمثل في هذا الصندوق، لأن البديل عن الصراع السلمي الذي يسير بالناس إلى الصندوق هو الصراع المسلح الذي سوف يسير بهم إلى المقبرة ودمار البلد، لقد كان هذا الحل هو أفضل ما أنتجته الحضارة الإنسانية في طريقة الوصول إلى الحكم، ولقد ثبت واقعيًّا أنه أفضل بكثير من أي طريقة ثانية، ذلك أنه حقن الدماء وحفظ للناس حياتهم أولًا، ثم جعل القرار بيدهم، فمن لم ينجح في تحقيق مصالح البلد فسوف يغيره الصندوق ذاته الذي جاء به إلى سدة الحكم.
نحن العرب ما زال هناك دول لم تستدل على هذا الصندوق بعد، أنظمة تحكم فيها العائلة التي تخوّل فردًا ليحكم الوطن وليخضع الشعب بقوة الأمن والجيش، ويا للأسف ثبت أن هذه الدول بهذه الأنظمة التي لم تأت من طريق شعوبها من السهل جدًّا إخضاعها لأعداء شعوبها وأمتها، فقط ما عليهم إلا إخضاع مليك البلاد والتلويح بزعزعة عرشه فيخر لهم راكعًا ويصلي لهم الصلوات الخمس، مستعدًّا لأن يفدي عرشه بكل مدخرات ومقدرات وثروات الوطن، يُسخّر كل شيء في الوطن لمن يملك استقرار عرشه، ولو أنه كان منتخبًا لكان مصدر قوته شعبه الذي انتخبه، ولما حسب حسابا لغيره، ولكنه يتقن فن تهميشهم لان حاجته لمن يواليهم ويثبتونه على العرش اكثر من حاجته لشعبه.
وهناك من العرب من أخذ بهذا المنجز الحضاري فأقام جمهورية بدل الحكم الملكي، ولكنه استخدم الصندوق بطريقة تجعله ملكيًّا أكثر من الملك، جعل الصندوق أُلعوبة بيده وحوّله إلى مهزلة ومثار لسخرية العالم علينا، فلا نجد نسبة نجاح الرئيس في العالم كله تصل إلى أربع تسعات إلا عندنا، إذ إنهم لم يجيدوا اللعبة على شعوبهم، فلو جعلوا للمعارضة نسبة وهامشًا لما فضحونا بهذا الشكل أمام العالم، وهو كالأنظمة الملكية حيث كل شيء في البلد تحت تصرفه ويخضع لمزاجه الخاص، وكما أخضع شعبه لرغباته الشاذة إن قوى الاستكبار العالمية تُخضعه لمصالحها، لأنهم يعلمون أنهم سر قوته لا شعبه.
وبينما تفشل هذه القوى المستكبرة في بسط سطوتها، واللعب في السياسة الداخلية لأنظمة ديمقراطية أضعف منها، كفنزويلا مثلًا؛ تنجح نجاحًا باهرًا في عالمنا العربي، وسرّ ذلك أن شعوب أولئك المنتخبين انتخابًا ديمقراطيًّا حقيقيًّا هم حاضنتهم الحامية لهم، أما نحن فنجد شعوبنا عدوّة لحكامها الذين زيفوا وأساءوا أيما إساءة لصندوق الانتخابات في بلدانهم.
صندوق الانتخابات الذي ضلّ عنه العرب أو رموه بكل ضلالاتهم لن يكون الحل معه إلا إعادته إلى دوره الصحيح من غير لفّ أو دوران، والاستفادة من الأنظمة الديمقراطية التي كان سرّ نجاحها واستقرارها هو هذا الصندوق.