حين سئل مهاتير عن نهضة ماليزيا الحديثة في ظل حكمه، أجاب: إنه التعليم. حيث وضع مهاتير خطة طموحة للنهوض بالتعليم، ورفع رواتب المعلمين لدرجة الوزراء، لأنهم هم الذين يزودون الدولة والمجتمع بالعلماء والأطباء والمهندسين، وغيرهم. وتحكي تجربة اليابان ونهضتها بعد الحرب العالمية الثانية، أن التعليم كان أساسها، وأن اليابان رفعت رواتب المعلمين لدرجة الوزراء، وهكذا نافست اليابان أميركا وأوروبا في نهضتها الحديثة، في حين ظلت مصر متخلفة عن اليابان بسنة ضوئية، رغم أن مصر أغنى من اليابان في الثروات، ورغم أن استقلال مصر كان مع خروج اليابان منهكة من قنبلتين ذريتين.
مصر الثورة اهتمت بالأمن، وأهملت التعليم، في حين كان محمد علي قبل الثورة قد أرسى قواعد صلبة في الاهتمام بالتعليم، ومنافسة أوروبا، ولكن رجال الثورة وضباطها قضوا على هذا الاهتمام، وعلى الديمقراطية، فساءت أحوال مصر، وتراجعت نهضتها الحديثة.
موضوعنا ههنا ليس مصر ولا ماليزيا ولا اليابان. موضوعنا غزة، وجامعات غزة. وما تقدم آنفا كان مقدمة للموضوع. جامعات غزة، والتعليم العالي فيها، هو رأس مال الشعب، والوطن، حيث لا أرض واسعة النطاق، ولا مصانع كبيرة، ولا تجارة عريضة. غزة منذ عام ١٩٤٨م قامت على التعليم، وأسست مدنيتها الحديثة على التعليم، فجل المجتمع الغزي متعلم، ويحمل شهادة جامعية، وكثير من أبنائه وبناته يحملون شهادة الماجستير والدكتوراة، وبعض حملة هذه الشهادات العليا لا يجدون فرصة عمل في جامعات غزة، لأن الجامعات لا قدرة مالية عندها لتوظيف علماء جدد، في حينا هي لا تجد نصف راتب، بله، ربع راتب للموظفين القدماء، ولا تجد مالًا لدفعه نهاية خدمة للموظف. هل تعلم أن الأستاذ الجامعي يأخذ ثلاثمائة دينار، في حين مستحقه يبلغ ألفي دينار؟! هل تعلم أن من يحال إلى التقاعد يأخذ ١٪ من مدخراته شهريًّا لعدم وجود المال؟! ولكي يستوفي حقوقه هو في حاجة لعشر سنوات أو عشرين سنة؟!
الطالب في غزة ابن مجتمعه، ومجتمع غزة مجتمع بطالة نصفه، أو جله، والجامعة تجمع أموالها من الطالب، وتصرف بها على الأستاذ وعلى الموظف وعلى مستلزمات العمل. الجامعات لا تجد ما تنفقه، لأن الطالب لا يملك مالًا لتسديد الأقساط، ووزارة التعليم العالي والسلطة لا تدفع مساعدات للجامعات؟! كيف للجامعات أن تؤدي وظيفتها في هذا الوضع المأساوي؟!
إن كانت السلطة مسؤولة، وتبحث عن مجتمع متعلم، وعن نهضة تقاتل بها الاستيطان، فلا بد لها من العودة إلى الجامعات، ودراسة حاجاتها، وإمدادها بمال يسمح لها باستكمال رسالتها التعليمية، والوطنية.
مشكلة الجامعات ليست مشكلة داخلية، إنها مشكلة سلطة، وقيادة، تنفق على الأمن، ولا تساعد الجامعات. مشكلة الجامعات ليست مشكلة مجتمع بطالة، بل هي مشكلة سلطة لا تعطي التعليم الاهتمام الذي يستحقه؟! أغيثوا الجامعات ولا تدعوها تتسول، وإن لم تفعلوا فلا تتحدثوا عن وطن وعن نهضة وعن علم وعلماء؟!