بقي لغياب الشمس لحظات.. لحظات ويتوارى القرص الأحمر متخفيًا وراء الأفق، وكأن عاصفة الوداع تغِير على عائلة "الربعي" بحي الشجاعية شرق مدينة غزة، تقف نور (12 عامًا) الشقيقة الصغرى لخالد الربعي (14 عامًا) مع والدها أمام البيت، تثير تلك العاصفة غبار القلق في قلبها: "بابا؛ تأخر خالد.. يمكن متصاوب بالشفا"، احتفظ الأب بصمته وعاد للبيت وكأنه يعيش ذات الإحساس، بعدما تأخرت عودة خالد.
جدة خالد "أم طارق بكرون" (والدة أمه) يفزعها صوت ابنها القادم من بعيد: "خالد ابن أختي رانيا استشهد"، لم تصدق الجدة هذا الخبر حتى أمسك ابنها هاتفه وأشار إلى اسم ابن شقيقته الشهيد: "شايفة هي اسمه"، حتى تجمد الدم في عروق الجدة، وحبست أنفاسها، واهتز قلبها على وقع هذا النبأ، مطلقة العنان لدموع حزنها بالسريان على وجنتيها.
مجهول الهوية
خالد الذي اخترقت رصاصة أطلقها قناص إسرائيلي قلبه وأخرى قدمه، قرب السياج الفاصل شرق مدينة غزة الجمعة (6 سبتمبر/ أيلول 2019)، ظل ساعتين مجهول الهوية بمستشفى الشفاء، طفل صغير كان هدفا متنقلا لقناص إسرائيلي، حتى أسقطته تلك الرصاصة على الأرض ففارقته روحه.
تجمع حوله المسعفون، وضع أحدهم كف يده فوق الأخرى محاولًا (إنعاش قلبه) وهو يضغط على صدره، لكن الروح كانت صاعدة إلى السماء، حتى وصل الخبر إلى والدته من متصل عبر الهاتف ليخبرها أن ابنها مصاب، فأدركت أن هذا النبأ هو تمهيد لخبر الاستشهاد.
لحظة ذلك الاتصال استعادت أم خالد ما قاله لها طفلها صباح الجمعة حينما استغربت سبب توزيعه الحلوى على أبناء الجيران حينها برر ذلك: "عشان يترحموا علي.. لما استشهد".
تمنت لو عادت بشريط الزمن لساعات حتى تمنعه من مغادرة المنزل، لكن حتى فكرة الرحيل كانت بالنسبة لها أمرًا مرفوضًا بالكلام، وضعت أصبع يدها على فمه ناهية إياه عن ذلك: "ما بدي إياك تفارقني ما صدقت كبرت عشان أفرح فيك.. أنت أغلى من كل إشي".
صور وذكريات
في غرفة قديمة تضم خزانتين باليتين في منزل الطفل خالد، تجلس جدته ووالدته وخالاته وشقيقتاه نور (12 عامًا) ونادين (10 أعوام)، وكل واحدة فيهن تسند رأسها إلى كتف الأخرى، مشاركة جزءًا من دموعها على ذلك الكتف وكأن وجنتيها لم تعودا تحتملان الدموع.
تدغدغ الذكريات قلب نور، مشيرة بيدها إلى الأمام: "هذه غرفتنا. كان خالد دائمًا ما يأتي لنا بالطعام والمسليات قبل النوم"، ما زالت تحاول استرجاع آخر الذكريات ببراءة: "كنا دائما نلعب التخباية قبل النوم.. لكن الآن رحل خالد".
تماسكت نور وبدأت في النظر إلى بعض الصور بين يديها، كانت أربع صور تجمعها بشقيقها وهما يجلسان بين أحضان والديهما، صورة لن تستطيع بعد اليوم تكرارها.
تقول الجدة عن خالد: "جدع مطيع لأهله، خرج من المدرسة إلى العمل لأجل مساعدة أهله، عمل في صناعة الحلوى، وآخر عمل له كان في أحد المخابز".
في صبيحة يوم استشهاده، اشترى خالد قميصا جديدا، وحلوى وزعها على أبناء جيرانه وأصدقائه في مسيرات العودة ليترحموا عليه إن رحل شهيدا، فهؤلاء الأطفال يعرفون أن لا ضمانة لبطش جنود الاحتلال، وكأنه يقيم لنفسه دون أن يدري مراسم وداع.
قبل ذلك بأيام، اشترى خالد حقيبة مدرسية لشقيقته نور أسرّ قلبها بها، وأهدى والدته جهازًا كهربائيًّا (يستخدم لتسخين الطعام)، بعدما حصل على أول راتب من عمله في المخبز.
خالد طفل يحب الحياة واللعب ويعشق الحلوى، هدفه الوحيد كان مساعدة والده العاطل عن العمل في إيجاد مصدر دخل للعائلة، حتى لا تكون تحت رحمة الشفقة من أحد.
"ماذا فعل حتى يقتل؟"، تسأل جدته المقهورة على فراق حفيدها منددة بهذه الجريمة: "وحتى وإن اقترب من السياج، هذا طفل كيف يقتل بهذا الشكل، إنه لا يشكل خطرا على هؤلاء المجرمين".
سقطت دمعة من عيون الجدة ثم سالت أخريات لا حصر ولا عد لها وهي تقول: "كان طفلًا نبيهًا ومميزًا"، مسحت بعضا من تلك الأحزان المتساقطة: "قطعوا قلوبنا حسرة. الله يحرقهم".
في هذه الغرفة ينام خالد مع أشقائه الخمسة (ولدين وثلاث بنات)، في آخر الأيام كان النوم مختلفًا، كان يحتضن شقيقه مهند (16 عامًا) والصغير محمد (عامان)، وكأنه يدرك أن لحظة الفراق اقتربت، من بعيد دخل محمد إلى الغرفة جالسًا في حضن جدته وهو يأكل قطعة من الشوكولاتة، وضعت جدته يدها على شعره الأشقر الطويل الملتوي في لحظة سبقت كلامها قطرات عيونها: "هذا حبيب خالد ودلوعه".
اقتربت لحظة إحضار الجثمان إلى أفراد عائلته لإلقاء نظرة الوداع عليه، "حتى الآن ما جابوه؟ وينه لهلقيت؟ تسأل والدته وهي تجلس بين شقيقتيها وكل واحدة تمسكها من كتف، تحاولان مدها ببعض الصبر علها تقوى على تحمل مشهد رؤية ابنها ممدًا أمامها.