لبنان بين موازنة الردع وفقه الموازنات!
كانت قوة لبنان تبدو أمام قوة الاحتلال كدراجة هوائية تواجه طائرة F 16، ولو قال أحد الناس إن لبنان سيقف في وجه دولة الاحتلال وسيضع حدا لجنونها فيه، وإنه سيشكل قوة رادعة لنُعت بالجنون والخروج عن المنطق والعقل وسفاهة الرأي.
لبنان بلد عربي صغير مستضعف منتهك مستباح، الجزار الصهيوني الشرس شارون كان يقول: دخولنا لبنان مجرد نزهة صيفية، لبنان كان مكانا مناسبا لعربدة الطيران الإسرائيلي وقتما شاء وكيفما شاء، كنا نسمع كل يوم عددا من الغارات على عدد من المواقع للثورة الفلسطينية. سنة 1982 اجتاحوا الجنوب ووصلوا الى حصار بيروت ثم عادوا ليصنعوا حزاما آمنا شكلوا فيه "جيش لحد" ليتابع لهم حراسة حدودهم، وصارت اليد الطولى والعليا في لبنان لدولة الاحتلال. لبنان دولة ضعيفة مسكينة تحت رحمة احتلال لا يرحم، (كحال دول عربية كثيرة في المنطقة هذه الأيام ).
اليوم اختلف الأمر كليا، توازن رعب وقواعد اشتباك وحسابات دقيقة يحسب لها الاحتلال ألف حساب.. هذه حقيقة واقعة تم تثبيتها بعد صراع طويل ومقاومة عنيدة أثبتت جدارتها وراكمت انتصاراتها على مدار أربعة عقود من الزمان، جعلت من كلفة الاحتلال لأرضها كلفة عالية بشرية ومادية. حسم الاحتلال أمره وحزم أمتعته، طوى عنجهيته وغطرسته التي صالت وجالت طويلا في لبنان، وفي عملية أطلق عليها الاحتلال اسم الغسق ولّى هاربا من لبنان في وقت الغسق "أشد أوقات الليل حلكة"، كان هروبا عظيما تحت وقع ضربات المقاومة.
تحرر الجنوب اللبناني ولم تلقِ المقاومة سلاحها، بل بثلاثية عجيبة (المقاومة والدولة المتفهمة للمقاومة والشعب صاحب ثقافة المقاومة) استمر في الاعداد للمعركة القادمة، ولما نسي الاحتلال عار هزيمته وشنّ حربا لإعادة الاعتبار لقوة الردع المتآكلة عام 2006، وكانت حربا ضروسا بدبابات فخر صناعته الميركافا وقوة الطيران وبحريته المتعجرفة، فاجأته المقاومة بمحرقة الميركافا وتدمير مدمرته البحرية، ورد عدوانه، فحمل ذيله وتقهقر من جديد.
بالمختصر المفيد: أثبت لبنان ذاته على خارطة المنطقة وأصبح ندّا وخصما لدولة الاحتلال، وقد حاز هيبة الدول المحترمة، وتحول من خاصرة رخوة الى صخرة تتحطم عليها عنجهية هذه الدولة التي تجيد الغطرسة والعربدة على من لا يعرفون لغة القوة ورضوا لأنفسهم المهانة والمذلّة.
ذلك بفضل المقاومة العنيدة والناجحة والمبدعة والموفقة.. أولئك الذين يعملون على قاعدة الاشتباك الأولى: حسن البلاء وإبداع الأداء حسب متطلبات معادلة الانتصار. فطريق العزة معروف وضريبته أقل بكثير من ضريبة الخنوع والمذلة. وفي الوقت نفسه ليس المطلوب من أي مقاومة أن تضرب ضربتها الأخيرة في اي ظرف وعلى اي حال ومهما كانت النتائج والتقديرات، ليس المطلوب في أي مناوشة ان تخرج كل اسلحتك وتكشف كل أوراقك. سيأتي وقت لهذا ولكن من يحدد الأمر الوضع الذي لا يحتمل ردات الفعل وفتح معركة على مصراعيها قبل أن تكون أنت ومحيطك وكل من سيشاركك المعركة الفاصلة جاهزا مثلك، من الغرور بمكان أن تعتقد مقاومة أنها صاحبة الحق في قرار حرب على مستوى المنطقة بمفردها ودون حسابات شركائها، هناك شركاء وحلفاء وهناك جبهة داخلية في لبنان، وهناك منطقة تغلي من حولنا ليست في عافية من أمرها، إذًا الصوابية تقتضي أن تحسب حسابات المنطقة وشركائك في المعركة عدا عن البعد الدولي ومدى مناسبته للأمر، إلا إذا أعطى العدو المبرر الكافي ووسع من عدوانه حينها لو فتحت المعركة على مصراعيها لن يلوم المقاومة أحد، أما اذا وصلت سياسة الردع الى مبتغاها ولزم العدو حدوده فالأمر يقتضي سد ذرائع المعركة المفتوحة الى حين كمال جهوزيتها وميل نتائجها لصالحنا.
طبعا وما غزة ومقاومتها العنيدة عن ذلك ببعيد، نجحت تماما في معادلة الصراع رغم الفارق الهائل بالإمكانات، فرغم الحصار وكثرة الاعداء وقلة الاصدقاء، غزة استطاعت كذلك رفع سقف التحديات ومراكمة الانجازات والنجاح في توازن الرعب والردع ودفعت الاحتلال إلى أدق الحسابات أمام أي عدوان يحلم به في الليل لينفذه في النهار.
وإذ نشيد بالمقاومة اللبنانية المتمثلة بحزب الله وأدائه المميز وحسن تصرفه وفق الموازنات والمعادلات الدقيقة، ومن وحي تجربتنا ندرك تماما أهمية هذه الجبهة مع هذا الاحتلال البغيض وأن السلاح الموجه الى هذه المعركة المركزية له منا كل الاحترام ونشترك معه على الهدف ذاته، تمنياتنا من كل المتحاربين في العالم العربي أن يوجهوا حرابهم وأموالهم وكل جهد يخسرونه في معارك جانبية ليتحول ربحا مضاعفا ومقدسا في هذه المعركة المفتوحة مع هذا العدو الواضح الذي لا يختلف على عدوانه اثنان. ليتوقف صوت المعارك كلها (في اليمن وسوريا والعراق وليبيا) فلا صوت يعلو فوق صوت البندقية التي توجه نحو الاحتلال.