أذكر عندما كنا فتيانا متدينين متحمسين كيف كنا ننظر إلى المقاهي وروّادها ، نتخيل أننا معسكر الإيمان وهم معسكر الكفر ، أننا من أتباع سيد المرسلين وهم أتباع أبي جهل ، حتى أننا في أحد السجالات التي تحولت الى نكتة ، نادى منادينا للهجوم على معسكر الكفر القابع في المقهى : عليهم يا رجال الله .. فردّ رجل من معسكر المقهى : عليهم يا صناديد قريش .. وعلى بساطة هذه النكتة إلا أنها عكست مراهقة في حمل الفكرة الدينية, وعكست حالة من الانتماء العاطفي التي تريد صناعة التحول السريع للمجتمع على ما نريد دون أي منازع أو شريك ، وأننا الحق المطلق بينما الآخرون هم الباطل المطلق . وهكذا ننظر إلى الناس وإلى الأمور كلها على قاعدة أبيض وأسود ولا وجود لغير هذين اللونين في حياتنا .
كنا ننظر وكأننا جئنا بالاسلام الخالص الذي نمثله ، بينما الناس في مجتمع جاهلي لا حظ لهم في الاسلام أبدا . وكان في حينها بعض الشباب يفهمون ما يكتب في عالم الفكرة الاسلامية بطريقة عجيبة ، كان ما كتب سيد قطب في ظلال القرآن في أوج انتشاره مع كتب ابو الاعلى المودودي ومحمد الغزالي وكانوا في حينها في حالة دفاع عن الاسلام أمام طوفان الغزو الثقافي للامة والحرب المفتوحة على هويته الثقافية، وكان لا بد من تحديد المفاصلة الحاسمة بين المنهج الاسلامي في التغيير والمناهج الوافدة التي لا تعطي اي اعتبار لمرجعيات الهوية الثقافية الاسلامية ، وضوح الفكرة الاسلامية وتميزها واعطاؤها القدرة على التغيير بما تحمل من ديناميكية وشمولية كان ذلك عنوان ما يطرح للرد على ظاهرة الغزو الفكري لبلاد المسلمين ، هنا فهم كثير من الشباب أن هذا ينسحب على المجتمع كاملا إذ هو جاهلي بامتياز طالما انه بعيد عن تطبيق الاسلام بشموليته المطلوبة . وهذا فهم عاطفي متسرع أنتج تصرفات متشدّدة عكست نفسها على علاقة الشباب المتدين بالآخرين سلبا .
ثم إننا قطعنا تلك المرحلة العصيبة وجاء من أهل العلم من يأخذ بأيدينا ويعلمنا أن دعوة الناس الى دين الله تحتاج الى الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن وأن الخير موجود في الناس بنسب متفاوتة ولا بد من رؤية الايجابي وتعزيزه وتشجيعه قبل رؤية السلبي ونقده والهجوم عليه . وأن مجتمعاتنا ليست جاهلية وانما هي مجتمعات مسلمة فيها جاهلية والمطلوب تعزيز المظهر الاسلامي ونقد الجوانب الجاهلية بروح متسامحة وذات رؤية اصلاحية متدرجة تملك النفس الطويل في التغيير .
وشهد العالم الاسلامي نهضة فكرية ارتقت بالإسلاميين حيث حوربت أفكار التكفير وتم تقويضها ، أذكر منها كتاب للبهنساوي في مصر الحكم وقضية تكفير المسلم سنة 1978 وكتاب للهضيبي دعاة لا قضاة ، وانتشر في حينها تفنيد ظاهرة التكفير وقالوا : "أن تدخل في الاسلام خطأ الف كافر خير من ان تقع في تكفير مسلم " . وبعد ذلك في بداية الثمانينات ظهرت كتب المعهد العالمي للفكر الاسلامي منها كتب الغنوشي في حقوق المواطنة وحرية الراي وكتب كثيرة عن المرأة والرؤى الفكرية, في التعامل مع كل مفاصل الحياة المعاصرة . وعلى صعيد الممارسة شهد العالم تجارب اسلامية كثيرة قبلت بالشراكة السياسية والتحالف مع من لا تشترك معه بالمرجعيات الفكرية مثل تحالف الفصائل الفلسطينية العشر وما شهدته انتخابات الجامعات من تحالفات ، وفي السجون جسدت الفصائل الفلسطينية حالة عالية جدا في الحوار والشراكة والتحالف والالتقاء على القواسم المشتركة رغم اختلاف المرجعيات والافكار .
ويأبى البعض الا أن يعيد مسيرة الفكر الاسلامي المعاصر الى مربعه الاول ، وهناك من ما زال يحاكم الاسلاميين على ما انتشر عنهم منذ بدايات القرن العشرين ، قافزا بذلك عن كل المراحل التي مرّ بها هذا الفكر ، وان هناك ما زال من لا يميّز بين المفهوم الديني الثابت المقدس وبين ما يجتهده البشر من خلال ما يعرفون من الدين ، خاصة في المتغيرات ذات العلاقة بمعطيات الواقع وتداعياته التي تقتضي الاجتهاد واتقان المعادلة بين النص الديني وتفاعلاته مع تطورات الظرف والزمان والمكان وقدرات الناس وامكاناتهم ، وبالتحديد في الميدان السياسي هناك مجال واسع جدا لاعمال العقل والاستفادة من خبرات الذات وخبرات الاخرين . لقد بتنا على حالة عالية من تطور الوعي الديني والثقافي والسياسي المعاصر وهذا نتج عن مسيرة طويلة على محك التجربة وتحديات الواقع الصعب بكل افرازاته القاسية ، ولا أدعي أننا وصلنا النهاية ولكن قطعنا شوطا ومسيرة التطوير الفكري والتوعوي الديني والسياسي ما زالت مستمرة .
وبتنا هذه الايام نجد من الشباب المتدين المتحمس للدين من يعيدنا الى المربع الاول والى ما قبل بداية مسيرة تطور الفكر الاسلامي المعاصر ، يريد أن يتعامل مع الامور بعاطفية عمياء أو طائفية مقيتة ،وتصنيف الامور على قاعدة ابيض واسود ومسلم وكافر ومجتمع جاهلي لا اسلام فيه ، فالاسلام عندهم لا يعتبر الا من زاوية رؤيتهم للاسلام ، وبالتالي سهولة التكفير ، والذي لا يحول بينه وبين استخدام العنف سوى توفر امكانيات ذلك ، فإن جاءت جهة وفرت له الدعم المادي والسلاح تحوّل الى أداة قتل وتدمير بيدها دون أن يفكر في هذه الجهة الممولة والداعمة ماذا تريد ؟ أو من المستفيد من سفك هذه الدماء البريئة ؟
لذلك الحذر كل الحذر من التدين العاطفي دون الوعي الفكري الكافي ودون البناء التربوي الصحيح والفهم السياسي الرشيد ، هناك من ينتمي الى جماعات واحزاب وفصائل اسلامية بشكل عاطفي وهذه بدورها تحاول المحافظة على انتمائه لها دون أن تعمل على تعبئته فكريا ومعنويا التعبئة الصحيحة وبما يتناسب مع روح الاسلام والتطور الفكري المعاصر ، هذا يبقى عرضة لاستقطابه الى انتماء تكفيري متشدد ومتطرف يهوي به في مهاوي الردى ، فلا هو استفاد من انتمائه الاول ولا عرف كيف لا يكون فريسة سهلة لجهة منحرفة دينيا وسياسيا . وهناك من لديه أصلا نزعة متشددة في تكوينه النفسي وظروف حياته الاولى خاصة في مرحلة الطفولة وما تعرض له من ضغوطات نفسية وطبائع استبداد لا تنتج الا التطرف والانزياح العاطفي الشاذّ ..
والاخطر هو بذور الفهم الديني الخاطئ الذي يتناقله البعض والذي يحمل فيروسات التشدد والغلو والتطرف ، عندما ينشأ الفتى وهو يستمع الى خطيب لا يعرف الا لغة الهجوم وتثوير السلبيات والنقد الصاعق لكل مكونات المجتمع ، يضرب الناس بسياط لسانه بخطبه ومواعظه الجهورية الصاخبة بعيدا عن تحريك العقل والفهم الرشيد ، تجد من جلّ مواعظه الجلد والتشنيع ويجيد رسم الصورة السوداوية الحالكة للمجتمع ، يكبر النشء وهو يستمع لهذا الخطيب فإذا عرض عليه الانتماء لداعش او شبيهها وجد الفرصة لإنفاذ سمومه المحتقنة في صدره منذ نعومة أظفاره .
لا بد من اعادة النظر في الخطاب الاسلامي المعاصر حيث تجد بعض من يعتلون المنابر وهم لا يمتلكون رؤية حضارية ولا قدرات فكرية قادرة على التعبئة الصحيحة الممنهجة التي تفي باحتياجات المسلم الروحية والنفسية والفكرية وترتقي به وتعمل على إبعاده عن الغلو وتعزيز روح الوسطية والسماحة الاسلامية التي تجسد دينا جاء رحمة للعالمين .
وكذلك لا بد من اعادة النظر في المناهج التربوية في جميع مراحلها والتي فشلت بمجملها في انتاج الانسان المتوازن فشلا ذريعا على ضوء الفلسفة الاسلامية الراشدة ، اذا أردنا انسانا محصنا من اختراقات التطرف والغلو والداعشية فلا بد من البناء التربوي الصحيح ومن ثم منظومة توعوية فكرية ودينية قوية تقيه من هذه الافة الخطيرة وقادرة على أن تكون حصنا منيعا منها ومن غيرها من الافات .