فلسطين أون لاين

الحريق الكبير

في البدء يكون الحريق شرارةً وشواظًا ودخانًا.

وللحريق نطاق يصبغ المكان المحروق بالسواد، أو يذيب مادته القابلة للاحتراق.

وأما الحارق فهو كما وصفوه معتوه متعصِّب جرى وراء نبوءة تستدعي المسيح المنتظر، بعد أن يبني اليهود معبدهم على أنقاضه.

وبقي هذا المجنون حيًّا في بلاده الأسترالية البعيدة حتى بلغ الرابعة والخمسين، ثم مات عام 1995م من كمَدِه، إذْ لم تأتِ النبوءة التي كان من المفترض أن تتحقق خلال أربع سنوات ونصف من فعلته، كما قال له كاهن كنيسته "كنيسة الرب العالمية" في قارته النائية في طرف الأرض الأقصى.

واليوم يمضي على ذكرى ناره الموقَدة خمسون عامًا شمسية كاملة، وما يزال سواد المكان يصبغ وجوهنا المحروقة بالأسى، وما يزال سخام العجز يكوي قلوبنا، وما تزال ألسنة اللهب تتراءى في مرايا عيوننا المحمرّة.

كل ما أحرقوه كان رموزًا على مكان يختزن المكانة، حاول فيه صنّاع الأزمنة أن يضعوا فيه أجمل ما فعلوه لحفظ المكانة، وإظهار احترامهم لِما ورِثوه من تراثِ قداسةِ هذا المكان.

لم يكن الحريق أول الدمار، بل كان خاتمة مرحلة أزالوا فيها تراث المغاربة في القدس، وفرضوا السيادة العسكرية الزرقاء المسدّسة على المكان المقدّس.

كان الاعتداء على تراث المكان اعتداء على آثار تاريخية عظيمة، لكن (يونسكو) لم تستطع أن تفعل شيئًا لنا سوى البيانات المسانِدة.

وإن زعماء العالم الإسلامي اجتمعوا أول مرة تحت دخان الحريق، وكوّنوا لجنة القدس، لكن أمرًا ذا بال لم نره إلى اليوم.

وإن الحريق قد فشل جزئيًّا بتدمير معمار المسجد الأقصى، لاسيما بعد إتمام جهود ترميمه بُعيد الحدث، لكنه أشعل الحماسة في نفوس يهود العالم وصهاينته أنه بالإمكان أن يتطلعوا دومًا إلى نمط الحريق لِيعْبروا إلى حلمهم البعيد المنتظَر؛ وصار هذا اليهودي المعتوه رمزًا مقدّسًا لهؤلاء الفدائيين اليهود الذين يقدّمون أنفسهم قرابين لأفكارهم الأسطورية التي يؤمنون بها.

إن حادثة حريق المسجد الأقصى جاء قبلها أحداث نرى مثلها اليوم وكأنها مقدّمة لحريق آخر كبير، كان منها اقتحام ثلاثة شبان متدينين يهود حرم المسجد وطوافهم حول قبة الصخرة.

المسجد الأقصى اليوم في داخل الحريق، معالمه الأبرز ما تزال ملوّنة لكنها قشرة زائفة تخفي تحتها سوادًا كثيفًا:

ألا ترى أشجارها المعمرة تسقط واحدة تلو الأخرى؟!

ألا ترى أبوابها تغلق واحدًا تلو آخر؟!

ألا ترى مصلّياتها تُحجَب عن الصلاة والزيارة؟!

ألا ترى أن تفريغ المسجد من المصلين تمامًا يتكرر كثيرًا؟!

ألا ترى الأذان يُخنق لأسباب أمنية لا علاقة لها بالصوت الصادح الداعي إلى العبادة؟!

ألا ترى تلك الأنفاق التي حولت أرضية المسجد إلى هواء تستعد لامتصاص كل ما على سطحها الملوّن؟!

ألا ترى شبابنا وأمهاتنا وبناتنا وكبارنا يُطرَدون عن المسجد ويُبعَدون، ويُعتقلون؟!

ثم ألا ترى أن مظاهر السيادة تتحول بسرعة إلى السلطات اليهودية، وأن الاقتحامات باتت يومية، وأن جرأة اليهود على مواضع عبادة المسلمين تبلغ مداها؟!

ثم ألا ترى أن القدس ومعها فلسطين صارت كلها في ذيل الاهتمامات، وأن مسيرة عربية واحدة لا تكاد تخرجلأجلها اليوم؟!

إن الحريق كبير هذه المرة، أيها المسجد المقدّس، إلا أنّه لم ينَل من اجتماع القلوب عليك في هبة باب الأسباط، ولدينا مزيد.

#حي_فينا.