هل سنُشيّع المصالحة إلى مثواها الأخير؟
كانت جنازة مهيبة، كل الجماهير الفصائلية والحزبية والعشائرية جاءت لتشهد تشييع المصالحة إلى مثواها الاخير، ظلّل الحزن والكمد الجنازة كغيوم سوداء تنذر بمطر عاد، سيطرت على وجوه المشيعين موجات صاخبة من النحيب والبكاء الحار، وقذف الخوف والهلع أعماق القلوب من مستقبل مرعب قادم، يتصور الناس حالهم دون مصالحة سياسية لقادتهم بعد دفنها والعودة دونها، كانوا قبل موتها بأمسّ الحاجة إليها، ماتت في ظل ظروف قاسية أرسلت عواصفها التي أهلكت الحرث والنسل، الاحتلال من جهة ضرب بكل أحقاده وكشف عن أنيابه وبات ينهش من كل جانب، أمريكا الدولة الأعظم أنفذت مخالبها وأعلنت الحرب علينا، وكثير من العرب من حولنا اصطفوا مع عدونا ولم يعودوا يبالون بقضيتنا لا من قريب ولا من بعيد. ضربنا الصديق قبل العدو وبتنا أيتاما على موائد أشد الناس لؤما ونذالة وارتكاسا لا يعرفون كرامة ولا تشم أنوفهم الكبيرة رائحة الحرية.
وإذ نحن في ظروف قاهرة تدفعنا للمصالحة والوحدة ورص الصفوف فإذا بنا نزداد اختلافا وفرقة وبعثرة للصفوف، فبدل أن نتوحد ونتعاون ويكمل بعضنا بعضا تنابذنا وتحاربنا، وبدل أن نسير قدما فريقا واحدا سرنا فرادى، وحتى أن الواحد منا لو استطاع أن ينقسم على نفسه لتشظى وتناثر ووزّع دمه بين القبائل.
ونحن في أشد الحاجة إلى المصالحة قرّرنا الخلاص النهائي منها وتشييعها إلى مثواها الأخير حيث الدفن الذي لا رجعة عنه، لقد تعبنا من الحديث عن المصالحة والاجتماعات وتشكيل اللجان وعقد اللقاءات والاتفاقيات. اختصارا للوقت والجهد واللعب بأعصاب الناس وتعليق الآمال والتعلق بحبال الأشواق الكاذبة قررنا "بطّ الدمّل"، ودفن هذه الحرمة التي تسمي نفسها مصالحة وإلغاءها من قاموسنا ليتفرغ كل منا لشأنه، علّه يصلح الحال، أو على الأقل يوقف الاندفاع إلى المزيد من الانقسامات والتشرذمات على قاعدة الرضا بالمنكر الأصغر خشية الوقوع في ما هو أكبر، تماما كإخوة يوسف مع أخيهم عندما اختاروا أن يلقوه في الجب بدل قتله، فنحن نختار دفنها والخلاص منها نهائيا كي لا تبقى ناقوسا يقض مضاجعنا ويعكّر صفو منامنا.
ولكن الفراق صعب، فهذا الجثمان الذي سندفنه بعد قليل كان له علينا فيما سبق فضل عظيم، ووفر لنا وحدة طالما جعلتنا أقوى مما نحن عليه اليوم، وشكلت لنا دهرا طويلا صمام أمان أمام سياسة الأعداء على قاعدة: "فرّق تسد"، وكانت وكانت... لذلك يعزّ علينا هذا الوداع الأخير وهذا الفراق الصعب، ولكن الأصوات التي تنادي: كرامة الميت دفنه تعالت وسيطرت على الجميع، يخشى هؤلاء من أن تنتشر رائحة تعفنها بعد أن طال رقادها، ويخشون من أن ينفضح أمرهم بأن فرطوا في عزيز لديهم فحرموه كل السبل التي تبقيه على قيد الحياة، لم يسقوه ماء ولم يطعموه طعاما، ولم يكسوه صيفا ولا شتاء. تركوه على حافة الموت دهرا طويلا ثم هم الآن يقولون كرامة الميت دفنه.
وصلت الجنازة المهيبة المقبرة، كانت تحوي قبورا لم يزرها أحد منذ دهر طويل، وعصفت بها عواصف الزمن لتبقيها كالحة باهتة لا لون لها ولا محضر، بالكاد قرأنا على شاهد أحد قبورها: الوحدة العربية، وعلى آخر: التكامل الاقتصادي العربي، وعلى آخر: ضريح المرحوم التعاون الإسلامي، وآخر: صندوق دعم القدس، وآخر: ضريح الحاجة المرحومة اللاءات العربية السبع، وآخر: ضريح المرحومة المقاطعة العربية...
دفنّا "المصالحة"، وعدنا نلطم خدودنا ونقدّد ثيابنا أسفا وحزنا على فراق المحبوب.
أفقت من كابوسي، حمدت الله وصرخت من أعماقي: هل بالفعل ستحظى المصالحة بعضوية تلك المقبرة وتنضم إلى سابقاتها الماجدات؟ من يسعى لدفنها؟ من ضيّع فرص إحيائها؟ هل بذلنا كل ما بوسعنا كي لا نصل إلى هذا المصير المشؤوم؟ هل بالفعل فات الأوان أم ما زال في الوقت متسع؟