الكل يشكو هذه الأيام من حالة الذوبان الشاملة والطاغية لأبنائنا في عوالم النت ، والذي يشكو أيضا قد شرب من نفس الكأس وساح مع السائحين ، أصبحنا وأبناءنا نتمتع بخاصية : "سريع الذوبان" كتلك المواد التي يذيبونها بسرعة ولو بواسطة مواد مذيبة مسرطنة .
لا بدّ من دق ناقوس الخطر والمواجهة التربوية الجادّة أمام ما يجري على هذه الشاشة الفاتنة ، تُحدث في النفس ما يشبه السحر ، تشدك إليها وتأخذك في أحضانها وتدخلك عالما كبيرا واسعا متنوعا يقول لك : شبيك لبيك عبدك بين يديك ، ولكن سرعان ما يسلب ارادتك ويبسط نفوذه على مواقع السيادة في شخصيتك فتتحول سريعا الى أن تكون عبدا له ، ينقلب السحر على الساحر واذا بك انت تقول له : شبيك لبيك عبدك بين يديك .. وهذا للكبير قبل الصغير شيبة وشبانا وأطفالا .
يأخذك وانت مذعن خاشع الى حيث يريد ، صحيح ان لك هامشا وهميا من الاختيار لكن الطبخة تأتيك جاهزة على أيدي طباخين مهرة يعرفون كيف يُطعم الفم فيستحيي العقل والفؤاد ، وهم بذلك يتجاوزون الفم فلم تعد الحاجة اليه فطريق العبور الى منابع التأثير ودوائر صنع القرار ميسرة ومفتوحة ، فضولك وحده وشغف الوصول الى المتعة والاثارة يدفعان بأحدنا لنسيان الوقت وخربشة الاولويات ونسيان الواجبات ، وشيئا فشيئا نصل الى الادمان وفقدان السيطرة على الذات والتحول من انسان العمل والمثابرة والمبادرة الى انسان العجز والكسل واللامبالاة القاتلة لكل ما هو خير ونافع للحياة .
ولا نستغرب اذا استمر الحال ومع اتساع افق الاثارة وابداعات سباق التسلح بكل ما هو قادر على اختراق ما تبقى في النفوس من روح ايجابية ، أن نصل الى السيطرة النفسية الكاملة على أمزجة وأهواء واهتمامات وارادات وعزائم وتوجهات الجيل القادم ، ستضعف الى ابعد درجة ممكنة كل الاهتمامات الاصيلة : الانتماء للوطن وقيمه وديننا وتاريخنا وكل ما يشكل هويتنا الثقافية الاصيلة ، سيصبح جيلا لا هم له الا الاثارة والمتعة والعيش على هوامش الاخرين ، وقد بدأنا نلمس بدايات هذه النتائج المريعة وبات كل الاباء والامهات وكل من يعمل في السلك التربوي يشكو من هذا الاعصار المدمر الذي يداهم أبناءنا ونحن متفرجون لا حول لنا ولا قوة .
لغاية الان لم أسمع عن مدارسة تربوية جدية لوضع معالجات ترتقي لمستوى هذا التسونامي الذي داهم شواطئنا وسحب منا أبناءنا، هناك محاولات تربوية خجولة متواضعة من محاضرات وندوات توعية، اجتهدنا مثلا بإنتاج مسرحي سيتم تعميمه على المدارس تناول مخاطر النت، ولكن هذا قطرة في بحر .
لا يمكن ان نواجه خطرا بهذا الحجم المدمر الا بجهود جماعية متخصصة وبطرق منهجية تضع يدها على الجرح النازف ثم ترسي قواعد تربوية متينة تحصن نفوس أبنائنا وتزرع القدرة الذاتية على المواجهة وتثبيت البوصلة التي توصل الى شاطئ الامان، هنا لا بد من اعادة النظر في مناهجنا التعليمية التي تقوم على التلقين والتعليم غالبا ، وطرح هذا السؤال : لماذا لم تنتج هذه المناهج الشخصية القادرة على المواجهة والمقاومة والانتصار على كل ما هو ضارّ ومدمّر ؟؟ خاصة واننا في عالم ابوابه مفتوحة علينا على مصراعيها وفي ظل احتلال متربص وعوامل هدم داخلية ايضا لا نحسد عليها ..
هنا لا بد لنا أن نعود الى عملية بناء الذات ولا بد أن نذكر أن ذاتنا نحن الفلسطينية بالتحديد، لا بدّ وأن تكون ذاتا ثورية بامتياز والا ذابت وضاعت ولم تقو على المواجهة ، لا بد من بناء عقيدة قتالية ذات قدرة عالية على الصمود والتحدي أولا . ثم لا بد من أن تمتلك هذه الشخصية انتماء عاليا لقضيتها المركزية : القدس وفلسطين وتشكيل النقيض التام مع المحتل . بعد ذلك لا بد من زراعة مهارات في نفوس أبناء هذا الشعب الذي ارتبط مصيره بالاشتباك الدائم مع المحتل مثل : مهارة ترتيب الاولويات وتعظيم الواجبات ، مهارة ادارة الوقت ، مهارة القراءة وطلب العلم ، مهارة القيم واخلاقيات النضال والتحرير .... الخ .
تحدي النت هذه الايام أعادنا الى التحدي الاساس إما أن نكون أحرارا وسادة نرفض ان نكون عبيدا وبالتالي يكون لنا مكان على الخريطة ونكون الرقم الصعب في المنطقة بدل أن نكون رعاعا في عالم وهمي لا رصيد لنا ولا مكان في هذا العالم الذي لا يرحم الضعفاء.