خرجت خان يونس كلها تودع شيخها أحمد نمر، الشوارع تزحف بعشرات آلاف المشيعين، وحي الأمل فاض بالقادمين لوداع الشيخ، ومخيم خان يونس أمطر رجاله على طول الطريق، وجاءت الوفود من كل قطاع غزة لتلقي نظرة الوداع على الرجل الذي رفض إلا أن يظل وفياً لوطنه حتى آخر قطرة جهد، وهو الذي كان يمشي شامخاً محرضاً في أعراس الشهادة، يرفض أن يركب السيارة، ويرافق الشهداء حتى مرقدهم الأخير مشياً على الأقدام.
بعد استشهاد ابنه حسام، أعلن مكبر الصوت أن موعد الجنازة سيكون بعد صلاة العصر، في ذلك اليوم، توجهت مع أنيس زيدان إلى بيت الشيخ أحمد نمر، وبعد أن قدمت له واجب العزاء، قلت له: يا شيخنا، أنت تشارك في أعراس الشهداء جميعهم، ومن حق الناس في شمال قطاع غزة وحتى جنوبه أن يشاركوك تشييع جنازة ابنك الشهيد، فلا تحرمهم الأجر، ولا تحرم الجماهير حقها في المشاركة، لذلك أقترح عليك أن يكون عرس الشهيد حسام غداً بعد صلاة الظهر.
صمت الشيخ برهة، وقال: كلامك صحيح، ليعاود مكبر الصوت نفسه التجوال في المدينة، وتحديد الموعد الجديد لعرس الشهيد.
قبل انتفاضة الحجارة بسنوات، حدثت في مسجد الرحمة بخان يونس أول مواجهة جماهيرية فلسطينية مع قوات الجيش الإسرائيلي، وكان الشيخ أحمد نمر حمدان قائد تلك المواجهة في المسجد، في ذلك الزمن الذي كان فيه الجيش الإسرائيلي يصول ويجول في شوارع قطاع غزة، لقد اعتصم المصلون في المسجد، ولأول مرة رفضوا تنفيذ أوامر الحاكم العسكري بالإخلاء، وتوافدت الجماهير على المسجد، وحصلت المواجهات التي أسفرت عن عدد من الجرحى، وإشعال روح التمرد والغضب في النفوس ضد قرارات الحاكم العسكري الإسرائيلي.
وكما التقيت مع طلابي في السجن، التقيت مع أستاذي الشيخ أحمد نمر حمدان في غرف التحقيق بسجن غزة في شهر رمضان من سنة 1985، يومها سمعت صوتاً جهورياً يردد في غرف التحقيق: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، كان الصوت صاخباً ومرعباً في آن، ومن خلال ثقب في الكيس الذي يغطي رأسي، أبصرت المحقق الإسرائيلي يقول لجندي الحراسة، أبعده من هنا، أو خلصني من هذا المزعج بصراخه وصوته، دققت في وجه الرجل الذي ينفث حقده في وجه المحققين، فإذا به الشيخ أحمد نمر حمدان، ومنذ ذلك اليوم، تعلمت من الشيخ درس الصراخ والإزعاج في غرف التحقيق.
التقيت بالشيخ أحمد نمر في ملعب كرة الطائرة في سجن عسقلان، وكنت ألعب في فريق ضد فريق الشيخ أحمد نمر في ذلك الزمن، وربما كان فريق الشيخ يضم في ذلك الوقت الشهيد إسماعيل أبو شنب والدكتور إبراهيم المقادمة وصلاح شحادة وآخرين نسيت أسماءهم، ولكنني لا أنسى وقار الرجل الملتحي خلف الأسوار، ولا أنسى تجدد اللقاءات اليومية معه في أعراس شهداء انتفاضة الأقصى 2000، وفي بيوت العزاء، إلى الدرجة التي كتب بعضهم تقارير كيدية لأبي عمار، يقول فيها: إن فايز أبو شمالة يقدم مكبر الصوت للشيخ أحمد نمر حمدان كي يلقي خطبه التحريضية ضد السلطة الفلسطينية.
ظل الشيخ أحمد نمر حمدان مسكوناً بالوطن فلسطين، وظلت ذاكرته تفيض بأمنيات العودة إلى بلدته بشيت، وظل عاشقاً للمقاومة محرضاً عليها، بل كان عاشقاً للمقاومين، نعم، كان عاشقاً للمقاومين، لقد ظهر ذلك العشق في آخر لقاء جمعني مع الشيخ أحمد نمر حمدان في مخيمات العودة بحضور الأخ يحيى السنوار، كان الوقت بعد تناول وجبة الإفطار في شهر رمضان، حين وقفنا بعد صلاة المغرب نتهيأ لمغادرة المكان، وقد تحلق الحضور من الشباب حول السنوار، في مكان كان فيه مكشوفاً لبنادق الجيش الإسرائيلي، في تلك اللحظة، راح الشيخ أحمد نمر يدفع بي باتجاه الشرق، ويلح علي بالتحرك رغم ضعفه، كان يدفعني باتجاه الشرق بقوة، فاستغربت الأمر، ونظرت إليه مندهشاً! وقتها أشار لي بالاقتراب منه، وهمس في أذني قائلاً: أنت طويل وعريض، قف بين يحيى السنوار وقناصة الجيش الإسرائيلي من جهة الشرق! ابتسمت في وجه الشيخ، وقد أدركت ما يرمي إليه، وقلت له: حاضر يا شيخنا، سأشكل بقامتي الطويلة حاجز الصد.
رحم الله شيخ فلسطين أحمد نمر حمدان.