فلسطين أون لاين

نحو رخصة قيادة للحياة الزوجية

حرصًا على قيادة السيارة بأمان، بحيث لا يؤذي السائق نفسه، ولا يؤذي من يقلّهم في مركبته، ولا يؤذي الآخرين في مركبات أخرى، أو مارّة في الشارع، وكي يسير بأمن وأمان وسلامة كان لا بد من أن يُؤهل تأهيلا جيدا؛ نظريا بما تُعرف بقوانين السير، وعمليا بإتقان مهارة القيادة، عندئذ يمنح رخصة قيادة.

ما بالنا بمن يريد أن يتأهل لقيادة الحياة الزوجية قيادة آمنة وسليمة وسعيدة؟ قيادة البيت لا تقل أهمية عن قيادة المركبة، بل هي أشد خطرا إن أصابها خلل، وأعظم أثرا إن سارت بسعادة وهناء. وليس الطلاق أعظمها خطرا، حيث تشير الإحصائيات إلى ارتفاع نسبته، خاصة خلال مرحلة الخطوبة. الأخطر من الطلاق أن تسير الحياة الزوجية بعيدا عن المودة والرحمة والتعاون والعشرة الطيبة، فتصبح الحياة الزوجية كابوسا دائما يخيم على الزوجين، ويعكس دمارا تربويا على الأبناء.

هناك ثلاثة سيناريوهات للحياة الزوجية:

- الأول أن يفرض الرجل هيمنته على امرأته فيلغي شخصيتها بتذويبها في شخصيته، وتصبح ميدالية معلقة في جيبه، لا يحق لها أن تعترض أو تناقش أو تخالف لا بالرأي ولا بالقرار، تلك طامة كبرى، وتسلم هي قيادة نفسها له بالكامل خشية من قوة شكيمة شخصيته الكاسرة واختصارا للمشاكل، وهذه التي رضيت أن تكسر جناحها وقلبها وعقلها له غالبا ما يأتي اليوم الذي تتمرد فيه خاصة عند استقوائها بأولادها عندما يكبرون، فينفجر بركان كظم الغيظ الذي حشرته في صدرها منذ سنوات طويلة، والمشكلة في هذا النمط من الشخصيات من الرجال أنها لم تعتد أن تفكر بشكل جماعي أو أن تقيم شراكة مع الآخرين، هي شخصية بؤرية قائمة على الأنا وإلغاء الآخر، خاصة إذا نُظر للآخر أنه أضعف منه وأنه يستطيع بسط نفوذه بكل سهولة ويسر، ويتقوى بذلك على ثقافة المجتمع التي تصب في هذا المجال، مثل: اقطع رأس القط من أول ليلة، أو خذها أصغر منك لتكون كالعجينة تشكلها كيفما شئت، وقد يستقوي على ذلك بنصوص دينية بانتقائية عجيبة، فيحفظ ما يحلو له ويقفز عن التي لا تحقق له سياسة الهيمنة المطلقة المعشعشة في رأسه، فيأخذ مثلا الحديث الشريف: "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"، (هنا نلاحظ أن النبي لم يأمر، ومع ذلك يأخذ بالأمر)، ويقفز عن حديث: "النساء شقائق الرجال"، أو: "ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم". هذا هو رجل الهيمنة المطلقة على الزوجة التي إما أن تختار بين المشاكل أو الرضوخ التام. ويتولد عند الأولاد نمط الأبوية المطلقة، فإذا تعامل أحدهم مع الآخر تعامل بهذه الروح النمطية التي تحطم الشراكة المتبادلة بين الناس وروح الفريق حتى لو اقتنع به نظريا فلن يجيده عمليا.

- السيناريو الثاني للحياة الزوجية على النقيض تماما، أن تهيمن المرأة على زوجها خاصة إذا كانت بشخصية أقوى من شخصيته، وجاءت من بيئة إلغاء الآخر وإقامة العلاقة على قاعدة أنها الكل في الكل، أو أنها عاشت دهرا وهي مسلمة قيادة نفسها لزوجها كونه من النمط السابق، ثم جاء دورها لتستلم القيادة في البيت لضعفٍ نتيجة ظرف مادي أو اجتماعي أو مرض ألمّ بزوجها أو انتصار بالحرب الباردة وهيمنة القوى الناعمة للمرأة على نخوة الرجل، وهذا النمط لا يقل سوءا عن سابقه، إذ بكليهما تُلغى الحياة المشتركة القائمة على التعاون والتكامل بين الزوجين. وتكون النتيجة المأساوية أيضا على الأبناء، إذ تتغلب عقدة الأنا على الحياة الجماعية، والتفكير بالأنا على التفكير الجماعي الرحب الحرّ. وتضيع كل القيم الجميلة في تلابيب الصراع ووضع الجميع تحت عباءة امرأة البيت الحديدية.

- السيناريو الثالث: هو تجسيد حالة الشراكة الحقيقية التي تبدأ بالتفكير الجماعي الحر واحترام الآخر، وتنتهي بالمحافظة على شخصية ودور كل من الزوجين، وإنتاج شخصيتين بعقلين وقلبين بدل دمج الاثنين في واحد، وهذه من السهل صياغتها نظريا، ولكنها عمليا تحتاج إلى الكثير؛ تحتاج إلى بناء تربوي سابق للحياة الأسرية قائم على الشراكة وبعيد كل البعد عن الإلغاء والصهر وطمس شخصية الشريك الذي لم يبن بهذه الطريقة ولم يصل إلى أن تكون الشراكة مع الآخر على قاعدة التعاون والتكامل. حتما سيكون عرضة للوقوع في مزالق الطريق التي تفضي إلى أسرة مشوهة قائمة على إلغاء الآخر أو القبول بشطب الذات أو الصدام والطلاق الذي هو أخف الأضرار في مراحل معينة، وأسوأ إذا تأخر.

هذا السيناريو الثالث لا يكون بمقال أو محاضرة أو حتى دورة، وإنما هو مسار تربوي وعمل ثقافي ضمن عادات وثقافة المجتمع، هو العمل بما ينتج بيئة تربوية حاضنة لثقافة الشراكة والتفكير الجماعي والحوار الهادئ وديمقراطية البيت والأسرة قبل ديمقراطية السياسة والأمة. كيف سننتج بيت الشراكة هذا وكل من حولنا يشكل البيئة المتفردة القامعة؟ يولد إنساننا مقموعا ويتعايش مع بيت القمع والهيمنة، ثم في الروضة يرى المعلمة المهيمنة وفي المدرسة الإدارة الصارمة والمعلم المقهور براتبه وظروفه المرّة والقاهر بسطوته ليُنفّس عن قهره في تلامذته، وإذا تخرج الطالب رأى قهر الفساد والمتنفذين في سياسات البلد والحاكمين بالولاء المغيبين للكفاءة والسياسات العادلة، يرى كل أشكال القمع وألوانه.. ثم نقول له إذا تزوج: أقم بيتا فيه الشراكة والعدالة واملأه بروح التعاون والإخاء والمحبة والرحمة.. يقف الشيخ عند طلب يد الفتاة فيطرز خطابه بالآيات الكريمة المحفوفة بالمودة والرحمة ويتنفس الصعداء ظانّا أنه أدى الرسالة وبلغ الأمانة ونصح للحياة الزوجية، هذه يا شيخ ثقافة مجتمع وعادات سلوكية لا تُقام بمجرد تذكير بأنها عمل دؤوب يُنتِج قيما وعادات سلوكية وطرائق تفكير مختلفة تماما.

لن أطالب بعمل الكثير على ثقافة المجتمع لننقذ الحياة الزوجية، على الأقل أطالب بدورة وهي أقل القليل تحاول ترسيخ قواعد الشراكة الحقيقية بين الزوجين وبعض معادلات الذكاء العاطفي والاجتماعي التي لا بد منها لتقف الحياة الزوجية على ساقيها وليتأهل الزوجان برخصة قيادة، وأن يكون ذلك إلزاميا تماما كفحص مرض الثلاسيميا، فكما نجح هذا الفحص في تخفيض نسبة الإصابة بهذا المرض الصعب سينجح هذا الإلزام بتخفيض نسبة القيادة الفاشلة للحياة الزوجية، ولا أدعي أن النسبة ستكون عالية، لأنه يبقى بعد ذلك العمل وتطبيق هذه القواعد. نأمل أن نكون بذلك قد خفّضنا من المآسي الأسرية التي أقلها الطلاق.