ربما، بحسن نية، يحاول بعض الدعاة والوعاظ، في إطار إبداء سخطهم وعدم رضاهم عن الواقع المعيش، عقد مقارنة بين السابقين من المسلمين واللاحقين، فيذكرون مناقب السابقين، وأفضالهم وفضائلهم، ويضعونها أمام اللاحقين من المسلمين، ثم يتساءلون: أين نحن من هؤلاء؟!
فيا ترى هل هذه مقارنة منطقية؟
من حيث المبدأ، إن هدف الدعاة نبيلٌ وجميلٌ وجليلٌ، لكن كي تنجح المقارنة وتُؤتي أكلها، لابد لها من عناصر معينة، منها وجود ظروف متطابقة إلى حد كبير، فلا يعقل أن نقارن بين مسلم القرن الأول ومسلم القرن العشرين، لماذا لا يعقل؟
المتابع لتطور الحياة بكل مظاهرها يجد أن ثمة فوارق كبيرة بين زمن مضى وزمن معيش، بل لا نبالغ لو قلنا إن التطور لا يتوقف، فكل يوم تجد أمورًا مستحدثة في الحياة.
هذا التطور المذهل جعل المقارنة غير منطقية، فمسلم القرون الأولى لم يكن لديه من مغريات الدينا ما هو موجود الآن، فقد عاش حياته قانعًا بالقليل من زاد الدنيا، وساعيًا إلى الكثير من زاد الآخرة، ومعينه على ذلك قلة الإنتاجات البشرية.
ولو تطرقنا إلى مسألة واحدة، وهي "العلم"؛ فبعض يقول إن العالم سابقًا كان يجيد أكثر من علم وأكثر من لغة، فيكتب في الفلسفة والمنطق وعلم الاجتماع والطب وعلوم الدين وغيره، هذا أمرٌ لا يمكن إنكاره، لكن ما كان متاحًا سابقًا لم يعد كذلك الآن، فالمعارف تتسع والعلوم تتنوع، حتى داخل العلم الواحد توجد تفرعات، ثم إن العالِم قديمًا لم يكن لديه متطلبات حياة كثيرة، فكان يقضي وقتًا طويلًا في التعلم والتعليم، أما الآن فتجد متطلبات الحياة تتشعب يومًا بعد يوم، وكي تحقق هذه المطالب يجب قضاء الإنسان وقتًا لا بأس به في طرق تلبيتها، وهذا يقلل فرصة إقباله على التعليم وتنويع المعارف.
أرى أن الإكثار من تقزيم مسلم القرن الحالي من شأنه خلق نوع من الإحباط واليأس لديه، لأنه سيظن أنه مهما فعل فلن يصل إلى ما وصل إليه المسلمون الأوائل، ثم إن المنطق العلمي والموضوعي يقتضي ذكر مسألة في غاية الأهمية، هي أن وجود نماذج رائعة جدًّا في الأزمنة الماضية لا يعني تعميم تلك النماذج على الجميع، ولا ينفي وجود نماذج رائعة في العصر الحديث.
لذا على الدعاة فهم التغيرات التي تحدث كل ساعة في مشارق الأرض ومغاربها، وما لها من انعكاسات على أخلاق الناس وأفكارهم، وربما مستوى تدينهم، ومعرفة أن إنسان هذا الزمان خلق لهذا الزمان، وأنهم خلقوا لزمان غير زماننا، وحتمًا ستختلف الإبداعات حسب الزمان والمكان.