لم يكن الدور الذي لعبه اللاجئون الفلسطينيون في بناء لبنان عابرًا أو عاديًّا، بل أحدث نقلةً نوعيةً في الاقتصاد اللبناني ونهضةً حضاريةً في كل المجالات، خاصة مجال الاقتصاد والاستثمارات.
وفي إثر احتلال فلسطين ونكبتها عام 1948م، حمل اللاجئون معهم إلى لبنان، دفعةً واحدة، نحو 15 مليون جنيه إسترليني، أي ما يعادل أكثر من 15 مليار دولار بأسعار هذه الأيام، وهذا الأمر أطلق فورة اقتصادية شديدة الإيجابية، لاسيما أن اليد العاملة الفلسطينية المدربة ساهمت في العمران وتطوير السهول الساحلية اللبنانية، والرأسمال النقدي أشاع حالة من الانتعاش الاستثماري الواسع.
وكان لإقفال ميناء حيفا ومطار اللد شأن مهم جدًّا في تحويل التجارة في شرق المتوسط إلى ميناء بيروت ثم إنشاء مطار بيروت الدولي، بعدما كان مطار بئر حسن مجرد محطة متواضعة لاستقبال الطائرات الصغيرة، هذا ما ورد في مقال للكاتب اللبناني المعروف طلال سلمان مؤسس صحيفة "السفير" اللبنانية.
ولفت إلى أن الدور الذي لعبه الفلسطينيون في الاقتصادي اللبناني كان كبيرًا، ذاكرًا أسماء أبرزهم في ذلك: كيوسف بيدس (مؤسس بنك إنترا، وكازينو لبنان، وطيران الشرق الأوسط، وأستوديو بعلبك)، وحسيب الصباغ وسعيد خوري (مؤسسا شركة اتحاد المقاولين)، ورفعت النمر (مؤسس البنك الاتحادي العربي ثم بنك بيروت للتجارة، وفيرست بنك إنترناشونال).
كما برز باسم فارس وبدر الفاهوم (الشركة العربية للتأمين)، وزهير العلمي (شركة خطيب وعلمي)، وكمال الشاعر (دار الهندسة)، وريمون عودة (بنك عودة)، وتوفيق غرغور (توكيل مرسيدس، وشركة ليسيكو، ومشاريع تجارية كبيرة أخرى).
ويقول سلمان في حديث خاص لصحيفة "فلسطين": "إن الفلسطينيين لم يأتوا لبنان بإرادتهم، بل جاؤوا قسرًا إلى بلدهم الشقيق حتى يعينهم إخوتهم اللبنانيون على استرداد فلسطين مرة أخرى من الاحتلال الإسرائيلي".
وقد وُزع الفلسطينيون على مناطق عديدة في صيدا وصور وبعلبك وبيروت، وإلى الشمال في نهر البارد، أما المسيحيون منهم فوزعوا إلى مخيمات مار إلياس وجسر الباشا، وقد كانوا جميعًا عمالًا مهرة ساهموا بتطوير الاقتصاد اللبناني، وفق حديث سلمان.
هاجروا أغنياء
الكاتب الفلسطيني في لبنان سهيل الناطور يقول: "إن لبنان كان بلدًا يعيش في مجال الزراعة، وبدأ عندما هجر الفلسطينيون إليه عام 1948م ينفتح على الغرب بتشجيع من الاستعمار الفرنسي، وكان في ذلك الوقت الجنيه الفلسطيني يعادل 10 ليرات لبنانية، وقبل تهجير الفلسطينيين كان اللبنانيون يفتخرون بالتي تتزوج فلسطينيًّا كأنه من دول الخليج اليوم".
ويضيف الناطور لـ"فلسطين": "إن الفلسطينيين عندما هجروا كان منهم كثير من الأغنياء، في وقت لم يكن هناك ميناء في لبنان، فانتقل الخبراء والمستثمرون الفلسطينيون العاملون في ميناء حيفا قبل النكبة إلى لبنان، وتحولت بيروت إلى الميناء الأوسع في الشرق الأوسط بعد ما كان ميناء الإسكندرية بمصر هو الأكبر".
ويذكر أن الفلسطينيين استثمروا في بناء بيوتهم بمخيمات اللجوء في لبنان، حينها كانت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) تنشئ الخيام فقط، واستثمروا بمجال الزراعة ونقلوا خبراتهم بهذا المجال وفتحوا بساتين الليمون والحمضيات والبرتقال اليافاوي.
وساهم المهندسون والعمال الفلسطينيون بإنشاء أحد أكبر خطوط النفط بالشرق الأوسط من العراق إلى طرابلس، التي أدارها إيميل بستاني، وهو لبناني كان يسكن ويعيش في فلسطين وبعد الهجرة استعاد جنسيته اللبنانية لإنشاء الشركة، وأخذ الكثير من العمال والمهندسين الفلسطينيين الذين أنشؤوا الشركة في دول الخليج.
ويلفت إلى أن معظم مكاتب المحاسبة والتدقيق أنشأها فلسطينيون من عائلة "سابا"، وكان الفلسطينيون يجيدون اللغة الإنجليزية، في حين كانت لغة لبنان بعد العربية فرنسية بسبب بقايا الاستعمار الفرنسي، وفكرة المطاعم والمطارات والشقق المفروشة طرحها أبناء عكا، كبنك "عودة" كان لعائلة فلسطينية، وشركة "مرسيدس" الألمانية للسيارات كانت توزع للشرق الأوسطمن مقرها ببيروت بوكالة فلسطينية.
ويقول الناطور: "إن ملايين الدولارات تدخل لبنان سنويًّا عبر (أونروا) لخدمات الصحة والتعليم، فضلًا عن الحوالات المالية التي يرسلها الفلسطينيون العاملون بدول الخليج لعائلاتهم"، مشيرًا إلى أن أحد البنوك الخليجية أعلن إفراجه عن 30 مليون دولار لعائلات فلسطينية من لبنان من حسابات أبنائهم بالبنك.
صفقة القرن
ويبين أن الاستثمارات التي قدمها الفلسطينيون في لبنان كبيرة، حيث أنشؤوا شركة "سي سي" للاستثمار بالشرق الأوسط، لكن لبنان أصدر عام 2001م قانونًا يحظر الملكية العقارية على الفلسطينيين، لم يقل ذلك نصًّا، لكن فحواه تضمنت ذلك، ومنع الفلسطينيين من التملك، ومن اشترى عقودًا مُنع من تسجيلها بالسجل العقاري، وكان ذلك كله جزءًا من طردهم من السوق العقاري والاستثمارات.
ويتابع: "إن العامل أو الخريج الجامعي الفلسطيني يصرف ماله في لبنان، لكنه يعامل كالأجنبي"، عادًّا وضع وزارة العمل اللبنانية معوقات أمام عمل الفلسطينيين لطردهم من السوق ودفعهم للسفر إلى خارج لبنان؛ تساوقًا مع ما تطرحه أمريكا باسم "صفقة القرن" التي تهدف لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين.