فلسطين أون لاين

" أبو طير".. حجارة تبكي 40 حلمًا

...
صورة أرشيفية
القدس المحتلة-غزة/ يحيى اليعقوبي:

مخزن مكون من حاصلين تفصلهما ستائر قماشية، لا تزوره أشعة الشمس إلا من أسفل بابه الوحيد، فلا نوافذ فيه، مكان ليس لتخزين البضائع أو السلع، وإنما مأوى تبلغ مساحته 50 مترًا؛ تعيش فيه عائلة المواطن المقدسي جهاد أبو صوص (50 عامًا).

جمع أبو صوص كل ما حصده طوال حياته في شراء شقتين في عمارة "أبو طير" المكونة من تسعة طوابق بحي وادي الحمص ببلدة صور باهر شرق مدينة القدس المحتلة، وهو ينتظر بفارغ الصبر انتهاء البناء فيها للخروج من مستنقع معاناة "المخزن"، سبقته حياة أخرى بالعيش في شقة بالإيجار لعشرين عامًا.

عمارة "أبو طير" كانت تمثل له "شقة العمر" أو الفرصة الأخيرة، وحلمًا تمنى تحققه عبر سنوات طويلة، بعد أن اشتراها ودفع "دم قلبه" وكل ما ادخره طوال فترة عمله.

لكن قوات الاحتلال زرعت المتفجرات في عمارة "أبو طير"، صباح الاثنين الماضي، وسوتها بالأرض، وحولت أحلام 40 أسرة إلى حجارة متطايرة.

عاد أبو صوص إلى القدس قادمًا من الأردن عام 1995م، طلب "لم الشمل" وتزوج ابنة عمه ورزق بأربعة أولاد وبنت، وعاش طيلة حياتها عاملا في الدهان، عمل ليل نهار لشراء بيت يخلصه من دفع أجرة شقته البالغة 1500-2000 شيكل بالقدس المحتلة شهريًّا، لكن ما ادخره لم يكفِ لشراء شقة في القدس بسعرها الباهظ بنحو "مليون شيقل"؛ حتى سمع ببناء عمارة "أبو طير" بمنطقة وادي الحمص في المنطقة المسماة "أ" تتبع إدارتها للسلطة الفلسطينية.

بصوت خافت متعب وهو يجلس بإحدى ورش الدهان يقول الصوص لصحيفة "فلسطين": "اشتريت الشقتين واللتين تبلغ مساحتهما الإجمالية 200 متر، وسكنت بالمخزن طوال فترة بناء العمارة حتى أقوم بسداد الدفعات المالية، بعدما سكنت أكثر من 20 عامًا في بيت الإيجار، كنا نحسب الأيام وننتظر بفارغ الصبر حتى نسكن الشقة.

"كل شيء راح.. وأنا الآن عدت للعمل لأجمع من جديد".. بهذا يختصر واقعه.

"تعب السنين"

"شو صار بالسكنا قال انهدمت.. سمعنا من الناس"، يوجه الطفل آدم (11 عامًا) كلامه لوالده محمد أبو طير (39 عامًا)، إلا أن الأب احتفظ بالصدمة لنفسه وأخفاها عن طفله: "لا ما انهدمت"، حتى ابتسم الطفل ضاحكًا: "يعني بدنا نقعد فيها لما تخلص"، وهو لا يعلم أن شقته اختفت مع كل الشقق الأخرى في العمارة التي فجرها الاحتلال.

"احنا مصدومين كانت حلم بالنسبة النا".. بها استهل أبو طير حديثه الهاتفي لصحيفة "فلسطين".

ويقول متألمًا عما جرى: "ذهبنا مع ساعات الفجر لتلك المنطقة عندما سمعنا بقدوم نحو ألف جندي إسرائيلي، أردنا مقاومتهم لكن كان عند عمارتنا نحو 150 جنديًّا، فقاموا بطردنا وكنا عدة أفراد (...) بقيت هناك حتى الثامنة صباحًا وأنا أشاهد حلمي يهدم أمام عيني، لم أملك إلا دموع الحسرة لتواسيني".

لا غرابة في صدمته، لكونه أمضى معظم وقته بالعمل بفترتين في محل تجاري بالقدس لتوفير ثمن إيجار شقته، إذ يدفع شهريًّا 2500 شيقل، والمبلغ الآخر من عمله الإضافي كان يدفعه أقساطًا للدفعات المتبقية من ثمن شقته، كحال الصوص لم يستطِع الشراء داخل حدود بلدية الاحتلال.

"أمضيت معظم وقتي لا أرى أطفالي وزوجتي حتى أوفر لهم مسكنًا ونرتاح من عذاب التنقل.. لكن كل شيء انتهى بلحظة"، سكت الصوت ونابت الدموع في رواية حكاية وجع وتشريد جديدة، وانتهت المكالمة هنا، لكن قصة هذا الرجل ستستمر في خوض المنعطفات القاسية والتشبث في الأرض.

الهدم لم يطُل الإرادة

الثالثة فجرًا السكون يفترش منطقة وادي الحمص، صاحب العمارة محمد إدريس أبو طير (43 عامًا) والذي يعمل في إنشاء عمارات تعاونية، يتصارع مع الوقت راكضًا للوصول إلى عمارته بعدما سمع بقدوم جنود الاحتلال لهدمها.

وما إن وصل أسفل عمارته، أوقفه جنديان إسرائيليان على مدخلها، فأنزل يديهما عنه وتجاوزهما للداخل، لم يبتعد أمتار قليلة حتى ثبت في مكانه، لينظر خلفه ويرى جنودًا آخرين يشدونه من قميصه مشهرين سلاحهم عليه: "أنت مش عارف إنه في أمر هدم"، قال جندي آخر مشيرًا بيده: "يلا روح روح".

تشبث أبو طير بعمارته رافضًا الخروج، يوجه حديثه للضابط الإسرائيلي: "أنتم دولة عنصرية فاشية والمحكمة ظالمة"، فقيده الجنود، بعد أن أمرهم الضابط باعتقاله وإرساله لمركز شرطة الاحتلال "عفروت" بمنطقة بيت حنينا بالقدس حتى الساعة الخامسة مساء من نفس اليوم، لم يشاهد عمارته وهي تسوَّى بالأرض إلا من خلال مشاهد مصورة التقطت لها.

"هذه العمارة بدأت إنشاءها بعد حصولي على ترخيص من وزارة الحكم المحلي الفلسطينية داخل حدود الجدار باتجاه القدس عام 2011م ثم أوقفنا الاحتلال، وعام 2016م قمنا بالبناء مرة أخرى حتى انتهينا من إنشاء العمارة المكونة من تسعة طوابقتضم 40 شقة سكنية تخدم الناس ميسوري الحال والأزواج الشابة ومن يقبلون على الزواج ، لكن بعد الانتهاء من البناء صدر قرار من محكمة الاحتلال العليا بوقف البناء في كامل المنطقة حتى تبت في القرار النهائي"، يقول لصحيفة "فلسطين.

أبو طير الذي بنى ثلاث عمارات سابقة بنظام الجمعيات التعاونية التي تدفع بنظام الأقساط بعد الدفعة الأولى، بات أمام مشكلة أخرى مع أصحاب الشقق، يقول إن الاحتلال أدخله في مشكلة كبيرة قد يتحمل خسارتها هو وحده،بل ويطالبه بدفع تكلفة الهدم للاحتلال "نخوض صراعا وجوديا، قاموا بعملية تهجير لتقليص السكان الفلسطينيين، لكن سنستمر في البناء وما حدث لن يؤثر علينا".