منذ ميلاد مصطلح "صفقة القرن" والغموض يكتنفه، والكل متشوقٌ لمعرفة ماهية وتفاصيل ذلك اللغز المحير، والذي صار بسرعة البرق يأكل معنا ويشرب معنا قهوة الصباح، وشاي الساعة الخامسة مساء، وينام معنا آخر الليل تحت ضوء القمر، والواضح أن الذي صاغ هذا المصطلح وأخرجه للعالم هو عبقري بامتياز، لأنه نجح في جعل أعصاب المشاهد العربي مشدودة حتى يصل المخرج بالمشاهد إلى الفصل الأخير، وهنا يكون المشاهد الذي وقع تحت تأثير عوامل الفضول والاستطلاع، قد خسر وقته وجهده وتفكيره وهو ينتظر تفكيك هذا اللغز.
ومن الطبيعي أن تنقسم الآراء حول صفقة القرن بين من يعتبرها حقيقة، وبين من يعتبرها مجرد خيال، فيا ترى هل الانقسام منطقي، وما حجة كل فريق ؟
الانقسام أمر منطقي، ونابع من فهم كل فريق للظروف بطريقته الخاصة، فالذين يرون أنها مجرد خيال ، يسألون المقرين بحقيقتها، ما الذي يخيف امريكا واسرائيل من اعلان الصفقة ؟ وما الذي قد يكون بالصفقة اسوأ من الدعم الأمريكيالأزلي الأبدي و اللامحدود "لإسرائيل" ؟ ولماذا تؤجل أمريكا اعلان بنود الصفقة وهي القادرة على تنفيذها ،وضرب أكبر رأس معترض بأكبر عصا، وحلق أكبر شنب بمقص صغير؟
بينما يؤكد الناظرون لها على أنها حقيقة، بأن الاعتراف الأمريكي بالقدس كعاصمة لدولة الاحتلال، وتقليص الدعم الامريكي المالي لوكالة الغوث الدولية وللسلطة الفلسطينية، والرضا عن اجراءات عباس ضد غزة من خلال قطع مخصصات الأسرى والجرحى، وفصل الآلاف من موظفي القطاع ، وإحالة الكثير منهم للتقاعد الاجباري، وتشديد الخناق على الجهات الداعمة لغزة خشية ذهاب هذه الاموال لغزة، وورشة البحرين وبعض الخطوات هنا وهناك ، هو بعضٌمن ملامحها.
وبموضوعية، فلو استقرأنا الرأيين لوجدنا أن لكل منهما ما يبرره، فأمريكا لا تخشى أحدا، ولا تهتم لشيء سوى مصلحة الكيان الصهيوني لأنه يخدمها بالدرجة الاولى، أما عن تأجيل الاعلان عن تفاصيلها ،فهذا ليس خوفاً، وليس امراً اعتباطياً، بل هو أمرٌ مدروسٌ تريد أمريكا من خلاله أن ينظر العرب لأي فعل اسرائيلي وامريكي سواء في فلسطين أو أي دولة عربيةعلى أنه أمرٌ طبيعي، طالما أنه لم يأت صراحة ضمن بنود صفقة القرن.
شخصياً اميل للمزج بين الرأيين بحيث ألا نضخم ولا نقزم النظر للمشاريع التصفوية الامريكية الصهيونية، وهنا أستذكر ما قاله احد قادة حماس بأن جهودنا تجاهصفقة القرن مثل الرجل المحشور في غرفة معتمة ويلوح بيديه في كل الاتجاهات فهو يقاتل شخصا مجهول الهوية واللون والحجم ،لا شيء فيه معلوم، لكنه رغم ذلك لا يجب أن ننظر للأمر على أنه مجرد وهم، ونعفي أنفسنا من عناء البحث عن مقومات التصدي والتحدي.
لقد استطاع ترامب أن يشتت المزاج العربي الرسمي والشعبي الذي هو مشتت بالأصل من خلال خلق هالة حول مشروع صفقة القرن الذي روج كما تروج أي شركة لمنتجهابطريقة تارة تقوم على التشويق والاثارة وخلق فضول لدى الجمهور .