لعلّ مقولة الراحل شفيق الحوت بأن "لبنان مع فلسطين وضد الفلسطينيين" تعبّر عن الواقع الذي يعيشه لبنان في هذه الأيام، بصورة جلية للعيان، في ظل الحراك الشعبي الفلسطيني الهادف إلى عيش كريم، بعيدًا عن الحصار والتجويع الناجم عن حرمان الفلسطيني المقيم منذ سبعين عامًا من حقوقه الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية.
أعتقد أن الحوت لم يقصد بأن كل اللبنانيين مع فلسطين، وأن كلهم ضد الفلسطينيين، وإنما ما قاله كان مجازيًا. ولكن الأكيد أن الطائفية التي تفرض سلطانها في لبنان لها قانونها الغريب الذي يطال اللبنانيين بشكل أو بآخر، بغض النظر عن الفوارق الجوهرية فيما بينهم.
فمن جهة، يبدو لبنان مع القضية الفلسطينية كما يظهر في دعمه للحقوق الفلسطينية، وعلى رأسها حق العودة، ورفض التوطين، ورفض "صفقة ترامب"، إلى حد مقاطعة ورشة المنامة خلافًا لعدد من الدول العربية التي شاركت فيها، وإن كان بعضها على مضض أو مضطرًا. كما أن لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني أنجزت وثيقة مهمة في العام 2017 كما ظهر في توصياتها التي كانت محل تأييد لبناني يكاد أن يكون شاملًا، وأشاعت أجواء إيجابية، ولكن توصياتها بقيت حبرًا على ورق.
ومن جهة أخرى، يعاني الفلسطيني في لبنان من عنصرية وتمييز مزدوج، قانوني وفعلي، وهو أسوأ من القانوني بكثير.
على الرغم من التعديل الذي حدث على القانون اللبناني في العام 2005، بشكل سمح للفلسطيني بالعمل في عشرات المهن التي كان محرومًا منها، إلا أنه أبقى على منع العمل في عشرات المهن الأخرى، من ضمنها الطب والهندسة والمحاماة والإعلام، ما يجعله يعمل بشكل غير شرعي تحت رحمة رب العمل الذي يفرض عليه أقل الأجور من دون عقد عمل ولا ضمانات صحية أو اجتماعية.
الأنكى من كل ما تقدم أنه ومع تعديل المادة 128 من القانون اللبناني الخاصة بحق العمل، والمادة 129 الخاصة بالضمان الاجتماعي، بحيث أصبح هناك خصوصية تميّز الفلسطيني عن الأجنبي من حيث الشكل، إلا أنه فُرِضَ عليه الحصول على إجازة عمل، والحصول عليها في كثير من المهن أشبه بالمستحيل، فضلًا عن أنه مطلوب منه أن يدفع مع رب العمل رسوم الضمان الاجتماعي والصحي البالغة 23.5%، في حين إنه لا يحصل إلا على ضمان نهاية العمل البالغة نسبته 8% من دون الضمانات الأخرى؛ أي يدفع حوالي 16% زيادة عما يتقاضاه من دون أن يحصل على مقابل لها.
كما لا يستطيع الفلسطيني أن يتملك بعد صدور قانون يمس الملكية، لدرجة أنه لا يستطع أن يورث ما تملكه قبل صدور القانون، مع أن الأجنبي له حق التملك!
في هذا السياق وحتى تكتمل الصورة، لا بد من ذكر بعض المعطيات الكافية للدلالة على الواقع المأساوي الذي يعيشه الفلسطيني في لبنان، فهناك يعيش 66% من الفلسطينيين في لبنان تحت خط الفقر، ويبلغ معدل البطالة 65%، وهناك 95% منهم بلا تأمين صحي، إضافة إلى أن 8% من الفلسطينيين يعيشون في منازل من الصفيح، وتعاني 60% من المنازل من مشكلات مختلفة، فضلًا عن أن المخيمات أصبحت أشبه بالسجون، وملجأ للإرهابيين وكل الخارجين عن القانون.
وهناك رقم ذو دلالة هو أن معدل التعليم الجامعي الفلسطيني في التجمعات الفلسطينية الأخرى 25%، في حين يبلغ معدل التعليم الجامعي للفلسطينيين في لبنان 6%.
جعل هذا الواقع حياة الفلسطيني في لبنان جحيمًا لا يطاق، ما دفع إلى هجرة حوالي نصف الفلسطينيين، إذ لم يتبق من الفلسطينيين في لبنان البالغ عددهم 550 ألف لاجئ سوى 174 ألف وفق الإحصاء الرسمي، و260-280 ألف وفق إحصاءات وكالة غوث اللاجئين (الأونروا) والجامعة الأميركية في بيروت.
في سياق ما سبق يمكن تفسير ما يحدث حاليًا في لبنان، على اعتبار أن قرار وزير العمل كميل أبو سليمان، الذي اعتبر العمالة الفلسطينية جزءًا من العمالة الوافدة من دون مراعاة للخصوصية المقرّة في القانون اللبناني، ما سيؤدي إلى زيادة الفقر فقرًا والإحباط إحباطًا. فكان قرار الوزير مجرد القشة التي قصمت ظهر البعير، وكشف الحالة المزرية التي يعيشها الفلسطيني في لبنان، والتي بحاجة إلى معالجة شاملة أكبر من التراجع عن قرار الوزير. معالجة تعطي للفلسطيني حقوقه الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية باعتبارها حقوقًا أساسية لا تقبل التفاوض عليها.
فما يحدث ليس فتنة ولا تذكير بأجواء الحرب التي لا يريد أحد أن يتذكرها، وليس مؤامرة تحركها فصائل فلسطينية أو أحزاب لبنانية خدمة لأطراف إقليمية أو دولية، بل إن الفصائل والأحزاب تأخرت وسبقها الشارع للدفاع عن لقمة عيشه وكرامته الوطنية، مع أن كل هذه العوامل يمكن أن تدخل أو دخلت، ويمكن أن تؤثر أو أثّرت في المشهد، ولكنها ليست الجذور المسببة لما يحدث.
أنتجت الخصوصية والحساسية التي يعيشها لبنان ضمن الصيغة الطائفية نوعًا من الفوبيا المرضية من الفلسطينيين خشية من توطينهم، وبالتالي كسر التوازن الطائفي لصالح طائفة على حساب الطوائف الأخرى .فالخشية من التوطين أدت إلى سياسات وممارسات سيئة جدًا بحق الفلسطينيين، ما أدى إلى دفعهم إلى الهجرة كما لاحظنا من معدلات الهجرة المتسارعة بشكل كبير، وخاصة في العقد الماضي.
وما زاد الطين بلة أن توقيت قرار الوزير اللبناني يثير التساؤل، كونه جاء على إثر طرح "صفقة ترامب"، والمساعي الأميركية المستمرة لإقناع لبنان بتوطين اللاجئين الفلسطينيين مقابل بضعة مليارات من الدولارات، التي ترافقت مع الدعوة الأميركية لحل وكالة "أونروا" ووقف المساعدات الأميركية لها، والمطالبة بتغيير تعريف اللاجئ، بحيث يحصر اللاجئون بالذين ولدوا في فلسطين وما زالوا على قيد الحياة، وعددهم أقل من 50 ألف لاجئ، ويقل عددهم مع كل يوم جديد يحمل معه وفاة أعداد جديدة منهم بحكم أعمارهم المتقدمة.
إن طرح التوطين ضمن "صفقة ترامب" أخاف البعض، وأسال لعاب البعض الآخر، على أمل أن تساعد هذه الأموال في تجاوز أو تخفيف الأزمة الاقتصادية الشاملة التي يعاني منها لبنان، وهي أزمةٌ ليس الوجود الفلسطيني سببًا أو عاملًا رئيسيًا في حدوثها، وإنما تعود إلى النظام الرأسمالي ونموذج الاقتصاد النيوليبرالي وتوابعه، وخصوصًا الفساد الذي يأكل الأخضر واليابس في كل البلدان التي سارت عليه. فالعامل الفلسطيني لا يهدد العامل ولا ينافس اللبناني، وإنما يعانيان معًا كون العمال الفلسطينيين تحت سن العمل في لبنان يبلغ عددهم في أقصى التقديرات أقل من 100 ألف، نصفهم لا يعملون؛ والنصف الباقي نصفه يعمل في المخيمات الفلسطينية، ونصفه الآخر، الذي لا يصل عدده إلى 25 ألف، لا يشكل منافسة حقيقية أو جدية.
ولتسويق ما يجري نسمع الشيء ونقيضه بأن لبنان ضد التوطين ومع حق العودة، وفي الكواليس هناك من يفكر لماذا لا نقبل بـتوطين 100 ألف فلسطيني مقابل الأموال الموعودة، لعل وعسى ذلك يساعد على حل الأزمة الاقتصادية المستعصية. كما يتردد بأن لبنان لا يمكن أن يدفع ثمن الحرب والسلام، والهزائم العربية، بما فيها هزيمة رهان الفلسطينيين على اتفاق أوسلو وما يسمى "عملية السلام"، وكأن على الفلسطيني أن يواصل الدفع وحده. وكما يقال أن حق العودة سقط وأصبح بعيد المنال، متجاهلين أنه حق وطني وفردي، وذلك لتهويل خطر التوطين شكلًا، وتبرير التهجير فعلًا.
لا يمكن التمييز بين الفلسطينيين والمساس بحقوقهم الإنسانية أن يساعد على تحقيق حقوقهم الوطنية، فمن يريد أن يقاوم التوطين عليه أن يقوي الفلسطينيين حتى يستطيعوا مواجهة "صفقة ترامب" وإحباطها.
يكون المخرج بالاستناد إلى الحراك الشعبي السلمي المنضبط، ومواصلة الحوار، والبناء على ما تم تحقيقه في إطار لجنة الحوار، بحيث تُزال كل العوائق التي تحول دون تمتع الفلسطيني بحقوقه الإنسانية، وتوقيع ميثاق شرف يميز بين الحقوق التي لا بد أن تلبى وبين التهجير والتوطين اللذين لا بد من عمل كل المستطاع لمنعهما، والانطلاق من أن فلسطين ولبنان ضحايا لمخطط واحد، وهما بحاجة إلى العمل المشترك لإسقاط "صفقة ترامب" التي تستهدف فلسطين والمنطقة برمتها لإيجاد شرق أوسط جديد تسيطر عليه (إسرائيل).