أثارت الحملة التي أطلقتها وزارة العمل اللبنانية على "العمالة الوافدة" في لبنان ردود فعل كبيرة في أوساط اللاجئين الفلسطينيين، الذين شعروا أنهم استهدفوا ضمن هذه الحملة، مع اختلاف الوضع السياسي والقانوني للاجئين الفلسطينيين، الذين لم يأتوا لبنان أصلًا بحثًا عن فرص عمل، وإنما كان قدومهم بسبب عملية تهجير قسري قامت بها العصابات الصهيونية في حرب 1948م، فنشأت حالة لجوء اضطراري بسبب منعهم من العودة لمدنهم وقراهم التي أُخرجوا منها.
معاناة مستمرة
بعد أكثر من سبعين عامًا، ما زال لبنان من أكثر البلدان التي يعاني فيها اللاجئون الفلسطينيون من حرمانهم العديد من حقوقهم الاقتصادية والإنسانية، ومن ذلك حرمانهم العمل في الكثير من الوظائف، والتعقيدات الإجرائية في الحصول على رُخص العمل، وحرمانهم حق التملك، بل إن القانون الحالي يحرمهم رسميًّا حق توريث منازلهم المسجلة بأسمائهم إلى أبنائهم وورثتهم.
وخلال الأعوام الخمسة عشر الماضية، اتخذت بعض الإجراءات المحدودة لتخفيف بعض أشكال معاناة اللاجئين، فخففت أعداد المهن الممنوعين من مزاولتها، وسمحت بعض التعديلات القانونية في سنة 2010م بإعفاء الفلسطينيين جزئيًّا من شرط ما يسمى "المعاملة بالمثل" المطبقة في العلاقة مع الدول.
وأتيحت لهم فرصة الاستفادة جزئيًّا من نظام الضمان الاجتماعي، بعد أن كان مطلوبًا من اللاجئ أو من رب العمل دفع 23 من المئة من مرتبه دون الحصول على أي منافع من ذلك، فأصبح قادرًا على الاستفادة فقط من 8.5 من المئة (ثمانية ونصف من المئة) هي مخصصات نهاية الخدمة.
ولذلك ظلت المشكلة قائمة من الناحية العملية، ومن ناحية حرمان اللاجئ كثيرًا من الوظائف والمهن، ومن ناحية حصوله على رخص عمل، ومن ناحية عدالة الضمان الاجتماعي الذي يأخذ منه أكثر بكثير مما يعطيه.
اللاجئون قوة تنموية إيجابية
إن مخاوف بعض الأطراف من "العمالة" الفلسطينية، وأنها ستكون منافسًا للعمالة اللبنانية، هي مخاوف غير حقيقية، ومبنية على حسابات غير دقيقة. فوفق الإحصاءات اللبنانية الرسمية، إن عدد الفلسطينيين في لبنان بلغ نحو 174 ألفًا، وعلى افتراض أن هناك أعدادًا لم يشملها الإحصاء؛ فربما أمكن إضافة عشرات الآلاف ليصبح العدد نحو 220 ألفًا، ولكن إحصاءات (أونروا) تشير إلى أن العدد المسجل لديها هو نحو 550 ألفًا.
ويعني الأمر أن ثمة "نزفًا" فلسطينيًّا لأكثر من 300 ألف موجودين في الخارجوجودًا دائمًا أو مؤقتًا، وعلى ذلك، إذا حذفت أعداد النساء (50%) إذ الأغلبية الساحقة منهن لا تعمل، وإذا حذفت أعداد الأطفال دون سن الثامنة عشرة (30-35%) من المجموع؛ فإن قوة العمل الفلسطينية الحقيقية ستكون بحدود خمسين ألفًا، أكثر من نصفهم عاطل عن العمل، ويعمل جزء كبير منهم في المخيمات على حسابهم، أي أن حجم العمالة الفلسطينية هو حجم محدود، وضئيل قياسًا بغيرهم.
من ناحية ثانية، إن الحديث عن عبء اللاجئ الفلسطيني على الدولة اللبنانية هو حديث مبالغ فيه كثيرًا؛ فالدولة عمومًا لا تنفق على البنى التحتية في المخيمات، ولا تقدم خدمات خاصة باللاجئين الفلسطينيين من موازناتها، والفلسطينيون غير مستوعبين في النظام الصحي والتعليمي والرعاية الاجتماعية.
من ناحية ثالثة، إن السماح للاجئين الفلسطينيين بالعمل، فضلًا عن أنه حق إنساني طبيعي، هو نفسه خدمة للاقتصاد اللبناني؛ إذ سينعكس جهده إيجابًا على عملية التنمية وتلبية احتياجات القطاعات المختلفة. ويُحوِّل اللاجئ من طاقة سلبية محرومة الإنتاج إلى طاقة منتجة وإلى قيمة مضافة.
من جهة رابعة، إن العامل الفلسطيني في لبنان سينفق دخله المالي في لبنان نفسه، وسيعيد توزيع دخله مرة أخرى على قطاعات الاقتصاد اللبناني المختلفة، ما يشكل حافزًا تنمويًّا في البلد؛ وهو بخلاف العمال "الأجانب" الذين يحولون مئات الملايين من الدولارات من دخولهم إلى بلدانهم.
من جهة خامسة، إن الفلسطينيين الحاملين الوثيقة اللبنانية، ممن اضطروا إلى الخروج للعمل في الخارج في دول الخليج وأوروبا وغيرها، يُحوّلون إلى عائلاتهم مئات الملايين من الدولارات سنويًّا، وكثير منهم يرغب في استثمار ماله في لبنان، وهو ما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد اللبناني.
من ناحية سادسة، إن استمرار التضييق على اللاجئين الفلسطينيين، وحرمانهم حقوقهم في العمل يؤدي إلى نشوء ظروف من المعاناة والشعور بالظلم والقهر، وهو ما يولد ظروفًا ومناخات للتطرف، وتصاعد المشاكل الاجتماعية، واستغلال بعض الأطراف حاجات اللاجئين لتجنيد بعضهم لأجنداتها الخاصة، ما قد يضر بالبلد وأمنه واستقراره، لذلك إن عمل اللاجئين في ظروف كريمة هو حاجة سياسية وأمنية واجتماعية لبنانية، كما أنه حاجة اقتصادية.
من ناحية سابعة، إن الدراسات العلمية العالمية تشير إلى أن ظاهرة اللجوء هي في أغلب الأحيان ظاهرة إيجابية على اقتصادات الدول، إذا ما أحسن التعامل معها، يؤكد ذلك مثلًا مشروع هاميلتون (وهو مجموعة بحثية اقتصادية ومركز تفكير ضمن معهد بروكينجر (أحد أكبر خزانات التفكير في العالم) أطلقت سنة 2006م).
إذ تؤكد دراساته دورهم في الصعود الاقتصادي وزيادة الإبداع، وأن معظم الدول الغربية استفادت من قدوم اللاجئين، وتشير الدراسات إلى أن العديد من الشركات العالمية الكبرى أسسها مهاجرون مثل جوجل وأنتل وبيي بال Pay Pal وإي بيي e-bay ... وغيرها، وأن أكثر من نصف الموظفين المهرة في "وادي السليكون" في الولايات المتحدة من المهاجرين، وأن أكثر من نصف براءات الاختراع المسجلة هي لمهاجرين أو أبنائهم، مع أن هؤلاء لا يمثلون أكثر من 15% من السكان.
والفلسطينيون الذين اضطروا إلى اللجوء للبنان جاؤوا ومعهم نحو 150 مليون جنيه فلسطيني (أي ما يقارب 15 مليار دولار بأسعار الصرف الحالية)، وأسهموا إسهامًا يعلمه الجميع في نهضة الاقتصاد اللبناني، وإنشاء الكثير من المؤسسات الكبرى، قادرون على متابعة دورهم الاقتصادي الإيجابي، وعليه؛ إن المطلوب من القيادة السياسية اللبنانية مراعاة حالة اللجوء القسري الفلسطيني، والتعامل معها بروح إيجابية، والبناء على تجارب الآخرين في هذا الإطار.
مقاربات وحلول متعثرة
المقاربة التي أشرفت على إعدادها لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، وهي لجنة رسمية حكومية تتبع رئاسة الوزراء اللبنانية، نتج عنها وثيقة "رؤية لبنانية موحدة لقضايا اللجوء الفلسطيني في لبنان"، ووافقت عليها القوى السياسية اللبنانية؛ مثَّلت خطوة مهمة لعلاج حقوق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
هذه الوثيقة صدرت في كانون الآخر (يناير) 2017م، وكان هناك توافق على توفير الحقوق الإنسانية للاجئين، وتمتعهم بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، وتحسين أوضاع المخيمات الفلسطينية، "وأنسنة" الإجراءات الأمنية، واحترام وضمان الحقوق والحريات السياسية السلمية للاجئين، وتسهيل إنشاء الجمعيات في الوسط الفلسطيني، والموافقة على وجود لجان تمثل المخيمات.
غير أنه بعد أكثر من سنتين من صدور هذه الوثيقة، لم تنفذ إجراءات حقيقية على الأرض، واستمرت المعاناة، واستمر "النزف الفلسطيني" إذ يضطر كثير من الفلسطينيين إلى الهجرة خارج لبنان بكل الطرق الشرعية وغير الشرعية.
ويمكن إرجاع ذلك ربما لوجود رغبة "غير معلنة" لدى بعض الأطراف في توفير بيئة طاردة للفلسطينيين، بسبب مخاوف من "التوطين"، أو لحسابات طائفية أو اقتصادية أو سياسية، ومن جهة أخرى، إن منظومة القرار السياسي والتشريعي في لبنان هي نفسها منظومة بطيئة، وتعاني مشاكل حقيقية، بسبب التركيبة السياسية والطائفية المتداخلة والمعقدة، وهو ما يعطل مصالح اللبنانيين أنفسهم كما حدث في اختيار رئيس الجمهورية، أو تشكيل الحكومة، أو إقرار الميزانية، أو علاج أزمة النفايات.
وبناء على هذا لا ترى العديد من القوى أن معالجة حقوق اللاجئين مسألة ملحة، وبعض القوى التي تعلن تبنيها المطالب الفلسطينية لا ترغب في الضغط على حلفائها الذين لديهم تحفظاتهم في موضوع حقوق اللاجئين.
***
وأخيرًا، إن على القوى اللبنانية المتعاطفة مع الحق الفلسطيني، وترفض تصفية القضية وترفض "صفقة القرن" ألا تكون بصورة مباشرة أو غير مباشرة جزءًا من "النزف" الذي يجبر الفلسطينيين على الخروج من لبنان، ويؤدي عمليًّا إلى تصفية الوجود الفلسطيني فيه.
وعلى هذا، لا أقل من أخذ الفلسطيني حقوقه الطبيعية، التي تمكنه من البقاء قريبًا من فلسطين بانتظار العودة إليها، في الوقت الذي سيكون فيه هذا الإجراء ليس رفعًا للظلم فقط، ولا للصورة السلبية عن الإدارة الرسمية اللبنانية، وإنما سيكون أيضًا إضافة نوعية إلى الاقتصاد اللبناني نفسه، ومزيدًا من الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني للبلد.
عربي21