ولم تكن يومًا أن يكبر على حساب أبناء البلد أو ينال من حظهم في وطنهم.
ولم تكن عينه مصوبة على أي موقع سياسي أو منصب رسمي أو وظيفة حكومية.
ولم يطلب منهم أن يمنحوه الخدمات الأساسية التي تليق بالإنسان العادي مجانًا مثل الكهرباء والماء والطرق والمقابر فضلًا عن الصحة والتعليم والنظافة، فهو يدفع ثمن كل شيء مع أنه يدفع ضريبة كل شيء لم يقدَّم له!
جعلوه أجنبيًّا في كل شيء يأخذونه من الأجنبي لكنهم لم يعطوه شيئًا ذا قيمة مما يُعطَى للأجنبيِّ!
لم يتركوا له مجالًا للعيش سوى أن يخالف القانون ليأكل ويشرب ويسكن... ليقولوا إن الفلسطيني يخالف القانون دائمًا!
لم يحموه ويقفوا معه، وحين حمل السلاح ليحمي نفسه اتهموه بالبلطجة والعربدة والجريمة وتجارة السلاح وممارسة الحرب!
لم يتيحوا له فرصة التعليم والتنوير عبر منابر الدولة اللبنانية العلمية والثقافية والتربوية فبات يبحث عن مكانه ومكانته هنا وهناك، بعضهم وصل، وبعضهم تاه وسط القوانين المرعبة التي تقذف به بعيدًا.
حرموه من كل مهنة كريمة أو وضيعة! فتخيلوا أن يكون هناك مئات الألوف من البشر يمنعون أن يكونوا أطباء ومهندسين وصيادلة وخبراء بل أن يكونوا نجارين وحدادين ونقّاشين وحتى عتّالين وجوّالين وكنّاسين وعمالًا، والآن يمنعون من فتح محل يعتاشون منه ويشغّلون لاجئًا محتاجًا مثلهم!
لا نريد أن نتحدث عن تلك المخيمات البائسة التي أجبروهم على العيش فيها... وكيف تكيّف الفلسطينيون مع الموت بالعيش في طريقه، وهم يبحثون عن خلاصهم بأظافرهم، لكن الحديث الواجب هو كيف يمكن أن يكون هؤلاء الذين يصمتون عن هذه المظلمة التاريخية الشنيعة ويشاركون في وضع قوانينها الإجرامية بحق الإنسان وكرامته!
لماذا تزرعون الحقد في قلوب الفلسطينيين، ولماذا تعاقبونه في أمور لم يكن سببًا فيها أو طرفًا؟!
إنه يحمل بلدكم وأنتم غائبون في مغترباتكم! وينال في ذلك أقل الأجور وأكثرها ظلمًا! وليس له ضمانات أو تأمينات أو حقوق قانونية!
ولا تكاد تجد فلسطينيًّا في لبنان يريد العيش فيها بهذه الطريقة المهينة، أو يتكفف الدولة والمجتمع، أو يمد للناس يده متسولًا، فهو يعمل ويشقى ويهاجر ويضع كل المال الذي يجنيه في البلد الوحيد الذي يعرفه أي في لبنان ليعيل بقية أهله ويجد لهم فرصة عيش كريمة وينقل من استطاع منهم إلى خارج لبنان ليعود لها بجنسية أجنبية ويشعر بالاحترام... وهو الشخص نفسه قبل الجنسية الجديدة وبعدها!
لست من سكان لبنان ولم أعِش فيها، لكنني زرتها كثيرًا، وشاهدت بعيني واستمعت إلى أوجاع الفلسطينيين هناك وحديث المرارات التي يتجرعونها، واستمعت أيضًا إلى نفر من اللبنانيين الكرام الذي ينظرون بخجل إلى ما تفعله منظومة السلطة الديكتاتورية الطائفية بحق هؤلاء البشر الذين أتوا إلى لبنان لاجئين في ظروف قاسية، ولم تحلّ مشكلتهم إلى اليوم!
لا نقول للبنان أن يحمل الفلسطينيين فهم قد يئسوا من الأمل في ذلك، ولا نريد منهم توطينهم، ولا معاملتهم كالأجانب؛ بل نريد من لبنان أن يعترف بهذا الواقع الإجباري الذي لم يجدوا له حلًا ولن يجدوه بطريقتهم، لأن الاعتراف بالمشكلة هو بداية حلها، وإذا لم يعترف لبنان بهذه المشكلة فإن كل حلول مطروحة بعد ذلك لن تكون جيدة بحق الفلسطينيين واللبنانيين معًا، وهي استدعاءٌ للحقد والظلم والبغي بينهم!
وما زلتُ متعجبًا من هذا التطرف السياسي الذي يستهدف الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي بين مكونات البلد الواقعية بقرارات يجب أن يحاكَم من أصدرها وإدانته بعداوة لبنان لا حبها!