لا يزال نتنياهو يعيش أوهام شعارات كانت تُطلق فيما سبق على جيشه المحتل للأراضي العربية، من قبيل أنه «الجيش الذي لا يقهر»، وأنه يمتلك «قوة رادعة»، متناسيًا أن تلك الأساطير قد جعلها الفلسطينيون خلفهم، وباتت اليوم أثرًا بعد عين؛ وأن هذا الجيش لم يعد يقوى على مقارعة الفلسطينيين، الذين طوروا من أساليب مقاومتهم، التي معظمها بدائية في صناعتها لكنها أرّقت منام قادة أركان الاحتلال، الذين أشار كثير منهم بأصابع الاتهام إلى نتنياهو، الذي بحسب قولهم أضعف قوة الردع الإسرائيلية، وكلام هؤلاء لم يأت من فراغ؛ إذ إن منظومة الدفاع الإسرائيلية المعروفة بـ"القبة الحديدية" وقفت عاجزة أمام الصواريخ الفلسطينية، وهو ما أجبر قادة الاحتلال على الانصياع في أكثر من موقف لشروط الفلسطينيين، ولن يخرج نتنياهو مع حدة تصريحاته الأخيرة عن خط أسلافه بالانصياع عاجلًا أو آجلًا؛ وما يثبت ذلك أنه حاول أن يجد للصلح مكانًا؛ بإبقائه على خيط الوساطة المصرية، مع تهديده باستبعادها؛ علّه بذلك يحفظ ما بقي له من ماء وجه، بعد أن ذهبت جميع تهديداته السابقة أدراج الرياح.
نتنياهو لجأ إلى التهديد والوعيد وإبراز مقدرته على تدمير غزة؛ أملًا في اجتذاب الناخب الإسرائيلي في انتخابات «الكنيست» المقبلة (المنهار فيها أصلًا)؛ ومع محاولات كوشنر لتلميع صورته وإظهاره رجل السلام عبر «صفقة القرن»، أصر على إبراز صلفه وحقده بتهديد يزيل به غزة وجميع الأراضي الفلسطينية، وأنه سينقل معركته إلى أرض «العدو»، مع إدراكه أنه لن يقوى على ذلك.
ووعيده لغزة هو مجرد ترهات؛ لأنه يدرك أن غزة التي استعصت على قادة جنرالات إسرائيليين كبار لن تكون لقمة سائغة له، فسلفه إسحاق رابين الذي يفوقه قوة ودهاء وحنكة استعصت عليه، ما حدا به إلى القول بعد حالة اليأس التي انتابته: «أرجو أن أستيقظ فأجد غزة قد غرقت»؛ لذا إن تهديدات رئيس وزراء الاحتلال هي من قبيل الجعجعة بلا طحين، وما يثبت ذلك أنه سرعان ما يعود للمهادنة، ليس من باب المحبة للفلسطينيين؛ بل لسببين اثنين: الأول أنه لا يريد أن يدخل حربًا يدرك يقينًا أنه سيكون الخاسر الأكبر فيها؛ إذ إن جميع الحروب السابقة لم تتمكن من اختراق الدفاعات الفلسطينية، ما كان يجبر الاحتلال على اللجوء إلى القصف الجوي فقط، والثاني أنه مقبل بعد مدة على انتخابات ولا يرغب في أن يفقد حظوظه الانتخابية الضعيفة أصلًا في حال مني بهزيمة في غزة.
الكيان الإسرائيلي على مدى سني احتلاله للأراضي العربية ينكل ويشرد؛ ظنًّا أن الشعوب العربية ستبقى مستكينة له، لكن تلك الشعوب التي خبرت المحتل تدرك أن ما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة، ولقنت قادة الاحتلال درسًا مفاده أن كل فعل معاد سيكون له رد يناسبه؛ لذا إن اللجوء إلى السلام مع الفلسطينيين لن يكون خيارًا للاحتلال بقدر ما سيكون رغمًا عنه، بشرط أن يعيد الفلسطينيون ترتيب أوراقهم؛ إذ من المعلوم أن الذئب يأكل من الغنم القاصية، وفي حال استمرار القطيعة بين الإخوة الفلسطينيين إنهم يمنحون الاحتلال فرصة لمزيد من التنكيل، وقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، وفرصة لنتنياهو ليستفرد بالشعب.
الخليج الإماراتية
--