ضمن الخلل المستمر، في معادلة صراع العرب مع الكيان الصهيوني، منذ وعد بلفور، حتى يومنا هذا، أن كل مرحلة من مراحل العدوان، تجب ما قبلها من مطالب مشروعة للأمة، وللشعب الفلسطيني. وكانت إحدى نتائج ذلك، هو أن اكتساب الاحتلال، لأي منجز جديد، خلق ردة فعل غاضبة تجاهه؛ بحيث يطغى بقوة، على ما سبقه من مسلسل متواصل من التنازلات العربية، لصالح المشروع الصهيوني.
رفض العرب قرار التقسيم رقم 181الصادر عن الأمم المتحدة، في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، وكان مبرر الرفض منطقيًا وموضوعيًا، وبقي ذلك الرفض سائدًا، حتى نكسة يونيو/حزيران 1967.
ولم يتجرأ أحد من القيادات العربية، أو الفلسطينية على قبوله، وحين دعا الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، في مطالع الستينات من القرن الماضي، إلى قبول قرار التقسيم، المشار إليه، قوطع من قبل القيادات السياسية والشعبية العربية.
شكلت هزيمة يونيو/حزيران 1967 مفترق طرق في صراع العرب مع «إسرائيل»؛ حيث طرحت أول قمة عربية، عقدت بالخرطوم، بعد النكسة، مشروع إزالة آثار عدوان يونيو، ولم يعد موضوع تحرير الأراضي الفلسطينية، التي تم الاستيلاء عليها مع النكبة، والتي تعرف بفلسطين ما قبل 48، وبات ذلك في الأدبيات السياسة العربية الرسمية، شيئًا من الماضي.
وكان الانتقال الدراماتيكي الآخر، قد أخذ مكانه بعد معركة العبور في أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، التي انتصر فيها السلاح العربي، وتغيرت بنتائجها بوصلة الصراع مع من اغتصبوا فلسطين، إلى محاولات مبطنة في معظم الأحيان، ومعلنة في بعضها من صراع وجود إلى صراع حدود. وقد تسلل ذلك الطرح إلى المقاومة الفلسطينية ذاتها، التي بدأت منذ ذلك الحين، بالتبشير بقيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي الفلسطينية التي احتلت في حرب النكسة، وتحديدًا الضفة الغربية والقدس الشرقية، وقطاع غزة، مع تأكيد حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم.
وفي حينه، أشار ممثل منظمة التحرير الفلسطينية، في لندن، إلى أن ذلك التنازل، هو أمر غير مألوف في التاريخ الإنساني، أن يتنازل الضحية للاحتلال عن أرضه، لكن الفلسطينيين، يقبلون ذلك، ليؤكدوا للعالم بأسره، رغبتهم في السلام.
وكانت كل مفاوضات تجري بين الفلسطينيين، و«الإسرائيليين» تنتهي بالمزيد من التآكل للحقوق الفلسطينية، الثابتة. فإثر توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، أجلت قضايا أساسية ومصيرية، لمرحلة مفاوضات الحل النهائي، وعلى رأسها حق العودة الفلسطينية، وعروبة القدس.
وتبع ذلك حديث عن واقعية سياسية جديدة، في سلوك قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية؛ حيث تراخى الحديث عن حق العودة، لصالح التعويض المالي لمن يوجدون في المنافي والشتات، بدلًا من العودة.
وفي هذه الأيام تنشط حركة قوية مضادة لصفقة القرن، التي لم يعلن عن تفاصيلها حتى هذه اللحظة، وتتبارى جهات عربية معروفة بعلاقاتها الجيدة مع «اليمين» «الإسرائيلي» للدفاع علنًا عن الصفقة، باعتبارها ستساعد على حل معضلة الفلسطينيين الاقتصادية.
والطرح هذا هو فريد من نوعه؛ إذ ليس له ما يماثله في العصر الحديث؛ حيث لم يسبق أن طلب من شعب أن يتنازل عن حقه في الحرية وتقرير المصير، مقابل تحسين لأوضاعه الاقتصادية.
ما يهم في هذا الحديث، ليس صفقة القرن ذاتها، لأنها بالقراءة المنطقية، ولدت ميتة، فلا يوجد بلد عربي واحد، يقبل التنازل عن شبر واحد من أراضيه، ليكون وطنًا بديلًا للفلسطينيين.
وشرط نجاح ما سرب من صفقة القرن، هو وضع الختم الفلسطيني عليه، وقبول البلدان العربية، المقترحة لاستضافة الكيان الفلسطيني، بالتنازل عن جزء من أراضيه، وذلك خارج أي احتمال،
وإذا كان الأمر كذلك، وهو ما نجزم به، فما الهدف إذًا من صفقة القرن؟
لقد حقق «الإسرائيليون» خلال العقود الماضية، معظم أهدافهم، في الأراضي المحتلة، وتمكنوا من تحقيق اختراقات كبيرة في الجسد العربي، وجرى تطبيع سياسي واقتصادي مع عدد من الأقطار العربية.
وبات الحديث عربيًا، وضمن القيادات الفلسطينية، عن حق العودة من الماضي، ومعه بدأ ترويض القيادات العربية، للتخلي عن عروبة القدس، بل وصار الحديث مألوفًا عن استحالة قيام دولة فلسطينية مستقلة، باعتبار التمسك بها، موقفًا خشبيًا، وبعيدًا عن الواقعية السياسية.
المطلوب من صفقة القرن، هو تثبيت هذا الواقع، وانتقال العرب، قيادات ونخب سياسية للحديث عن مخاطر محتملة، ونسيان، أن القضية الفلسطينية، قد تمت تصفيتها، في مسلسل التنازلات، التي وضعت عليها أختام عربية وفلسطينية.
الحديث عن صفقة القرن، أمر مشروع، لكن ذلك لا ينبغي أن يضيف جديدًا إلى مسلسل التنازلات التي قدمها العرب، هناك ثوابت فلسطينية، قبل بها العرب جميعًا، وتحدثت عنها المبادرة العربية، ينبغي أن يكون التمسك بها في هذه اللحظة الفاصلة، هو الحد الأدنى من التمسك بالحقوق العربية.
وينبغي أن لا يحجب عنا ضجيج الصفقة، حقوقنا التاريخية المشروعة في فلسطين، وما ضاع حق وراءه مطالب.
صحيفة الخليج الإماراتية