ظهرت مؤخراً مؤشرات حول نهج إسرائيلي يقوم على محاولة ضبط الخيارات التي من الممكن أن تلجأ إليها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. ولأن معنى "الضبط" متشعب ومتشابك، رأينا أن نقدم لأحد أشكاله المهمة، المتمثل في إستراتيجية "التحكم اللا إرادي". والأخير، هو مفهوم روسي الأصل، يشير إلى الطرق والأساليب التي يتم بمقتضاها تشكيل إدراك الطرف الآخر للواقع أو الحدث، بحيث تؤدي به طواعيةً إلى تبني سلوكيات أو قرارات متوقعة سلفاً.
والمفهوم ببعده المعلوماتي، يرتكز على مدى ما يمنحه المشغل لنفسه من قدرة على تنبؤ خطوات الخصم، من خلال ضخ أو فبركة حزم معلوماتية مدروسة، تؤثر بمرور الوقت على آلية صنع القرار لديه، أو على نوعية القرارات الصادرة عنه، لتقترب من التوقعات والخيارات التي يرغب بها، ما يمنحه فرصة التحكم الكامل في الحالة القائمة لأطول فترة ممكنة. ويمكن للمفهوم أن يتمدد ليشمل جميع المحاولات التي تنفذ من اجل تحقيق سيطرة غير محسوسة على الإرادة، بشرط ألا يشعر المستهدف أن خياراته مرصودة، ومتوقعة سلفاً. ولعل الخطير هنا، أن الجهة التي تحسن توظيف هذه الإستراتيجية، تستطيع التحكم في مآلات الأحداث ونتائجها، سيما إذا ما احسنت مزامنة الإجراءات العسكرية والاقتصادية والسياسية والإعلامية بشكل متمازج ومنسق.
من زاوية أخرى، تعتبر عملية "التجهيل" أو "التضليل" اساسية للفكاك من التحكم، خاصة اذا ما تأكدنا من محاولات الخصم رصد نقاط الضعف، أو سعيه للتعرف على آلية وكيفية اتخاذ القرار، إلى جانب معلومات أخرى يمكن أن تخدم مسعاه. وتعتبر منهجية "جز العشب" واحدة من الأشكال التي تطبقها "إسرائيل" لتحقيق تحكم لا إرادي على الحالة الفلسطينية؛ فعبر تنفيذ اعمال عسكرية كبرى او محدودة، بهدف "ضبط" قوة الخصم وإعادة صياغة اوضاعه وقدراته، يمكن لها ان تتنبأ بخياراته اللاحقة، سيما وانها تزامن بين الفعل العسكري والحصار الجغرافي والاقتصادي.
ولأن أي إستراتيجية لا بد وان تخدم هدفا سياسيا كبيرا، فالتحكم اللا إرادي ما هو إلا الطلقة الأخيرة التي في جعبة "إسرائيل" لتحقيق تحول جذري في سياسة قطاع غزة تجاهها، عله يتشابه مع توجهات حركات فلسطينية اخرى، استطاعت "إسرائيل"- عبر ممارسة تحكم مدروس- جرها إلى المربع الذي ترغب. ومن المتوقع هنا، أن تتعاظم جهود الكيان في مجال التحكم داخل قطاع غزة، ليشمل ابعادا أو نطاقات جديدة، بموازاة تلك الاقتصادية والعسكرية، بحيث تأخذ اشكالا اجتماعية، تطال وحدة وترابط النسيج المجتمعي، علها تتمكن من إغلاق الدائرة، وبالتالي تقليص الخيارات المتاحة للرفض والممانعة.
وعلى اية حال، اثبتت التجارب السابقة أن ما يرفضه الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يمر، وان جهود الكيان في مجال التحكم اللاإرادي ما هي إلا استثمار محكوم بالفشل، لتناقضه مع صفة فلسطينية متأصلة، قوامها المباغتة والمفاجأة. ولعل الانتفاضتين الاولى والثانية دليلان كافيان على صحة ما اقول.