لقد أعلنها البيت الأبيض جليّة، حين قال مسئول أمريكي رفيع: إن الإدارة الأمريكية لن تصر على حل الدولتين، وهذا كلام رائعٌ وواضحٌ، ويؤكد أن عدواً ظاهراً أهون ألف مرة من عدوٍ مختبئ، ولا سيما أن هذا التصريح يجفف بحور الوهم التي سبحت فيها القيادة الفلسطينية لسنوات طويلة، ويكشف عن جبال الملح السياسية التي تغطي شواطئ الفشل.
إنه الفشل السياسي!
وما لم تعترف القيادة الفلسطينية بفشلها على رؤوس الأشهاد، فسيظل الشعب الفلسطيني غارقاً في مستنقع العفن، ويتنفس الحسرة على أرضه ودمه وسنوات عمره، وهو حذر من الانفجار في وجه العدو الإسرائيلي قبل أن يرتب صفوفه الداخلية، ويقوّم الاعوجاج الذي تسببت فيه القيادة التاريخية، وأولها يتمثل في ترميم طرق المقاومة التي ردمتها هذه القيادة، التي أتقنت فن التنسيق الأمني الذي مكن المستوطنين من السيطرة على معظم أراضي الضفة الغربية.
ومن العيب أن يلقي الفلسطينيون بفشلهم على كاهل البيت الأبيض الأمريكي، الذي كشف عن وجهه الحقيقي، بل العيب كل العيب يقع على عاتق القيادة الفلسطينية التي سلمت ذقن الشعب الفلسطيني ومصيره وترابه المقدس إلى سكاكين البيت الأبيض، الذي لن يخجل وهو يعلن أن جلالة أمريكا العظمى قد خدعتكم أيها الفلسطينيون، وجرجرت أرجلكم إلى وحل المفاوضات الهادفة إلى تعزيز الاستيطان، وتوطين اليهود فوق ترابكم، ودعتكم إلى مؤتمر مدريد لحل القضية الفلسطينية، وجئتم، وجرجرتكم إلى ساحة واشنطن لتوقعوا على اتفاقية أوسلو، ووقعتم.
نحن جلالة أمريكا العظمى، حين احتجنا لمساعدتكم في حربنا ضد العراق سنة 2003، قلنا لكم: أمريكا تؤيد خارطة الطريق التي ستضمن لكم قيام دولتكم الفلسطينية قبل نهاية سنة 2005، ولم نفِ لكم بالوعد، فهو وعد سياسي ينتهي مفعوله بانتهاء الأسباب، كان يجب أن تدركوا أهداف أمريكا، وسياستها في حينه، ولكنكم ضيقتم على أنفسكم، ولهثتم خلف وعد كاذب جديد.
نحن جلالة أمريكا العظمى، طلبنا منكم المحافظة على الهدوء، ومواصلة التنسيق الأمني، ودعوناكم إلى مؤتمر أنابوليس سنة 2007، ووعدناكم بالاعتراف بكم دولة فلسطينية مستقلة قبل انتهاء ولاية الرئيس جورج بوش الابن سنة 2009، وصدقتم، ورقصتم، ونسقتم أمنياً، ولم تقم دولتكم، حتى جاءت إدارة أوباما، فطلبت منكم استئناف المفاوضات مع نتانياهو، والعمل على بناء المؤسسات فوق الأرض لتقوم دولتكم عملياً حتى سنة 2012، فخسرتم زمنكم الذي ربحه المستوطنون بمزيد من السيطرة على الأرض.
نحن جلالة أمريكا العظمى، نصارحكم أيها الفلسطينيون بحقيقتكم: لقد ضحكنا عليكم، واستدرجناكم إلى هذه الحالة، فدقوا رؤوسكم في المكعبات الإسمنتية التي يغلق بها الجيش الإسرائيلي مئات الحواجز على طرقكم، وناطحوا صخر الواقع العنيد الذي يسخر من الساذجين.
إن الحقائق التي أقامها المستوطنون على الأرض على مدار عشرات السنين من التفاوض لا تسمح بقيام دولتين، فمن يجرؤ على هدم مئات المستوطنات، التي صارت مدناً عامرة؟ ومن يجرؤ على طرد مئات آلاف المستوطنين من بيوتهم من خلال المفاوضات؟ لقد عبر الوقت، وفات الزمن في جحر الضب، وما عليكم إلا أن تكونوا واقعيين كما عودتمونا، فلا حول لكم ولا قوة، لأن قيادتكم الحالية غير قادرة على المواجهة، وقيادتكم غير قادرة على الاعتراف بالخطأ والاستقالة، وقيادتكم لا تخشى في هذه المرحلة إلا غضبكم أنتم، وانتفاضتكم ضدها.
فما أروع البيت الأبيض الذي يدق ناقوس الخطر على مسامع الشعب الفلسطيني!!!
ما أروع البيت الأبيض الذي أوقف التدليس، وكشف عن وجهه الحقيقي تجاه القضية الفلسطينية! ليغدو الخير أن يواجه الفلسطينيون عدواً ظاهراً من أن يواجهوا عدواً في ثوب الصديق، فقد دقت ساعة العمل المقاوم، التي تستنهض الجماهير الفلسطينية لمراجعة حساباتها، ومحاسبة المسئولين عن الفشل بجرأة وقوة وصرامة، وهي تضبط بوصلتها في اتجاه الحرية والكرامة.