فلسطين أون لاين

​صفقة القرن: الدعاية السياسية الكبرى تصل إلى نهاية

منذ السنة الأولى لتولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بدأ الحديث عن مبادرة تسوية سياسية للقضية الفلسطينية أسماها "صفقة القرن"، وناقش بعض المبادئ والأفكار المتعلقة بها مع قادة عرب من مصر والسعودية والأردن والإمارات، لكن إدارة ملف هذه المبادرة بقيت محاطة بالغموض، وبدا أن هناك حرصًا أمريكيًّا على عدم الإفصاح عن بنودها مع استثمار مدة ترقبها والخوف منها لفرض تراجعاتٍ على جزءٍ من النظام الرسمي العربي كان جاهزًا لها.

في التطبيق أعلنت إدارة ترامب مجموعة من السياسات بدأت بإعلان الاعتراف بالقدس عاصمةً للكيان الصهيوني، ونقل السفارة الأمريكية إليها، ودعوة الدول الأخرى إلى الاعتراف بها ونقل السفارات إليها، وإعلان وقف التمويل الأمريكي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، والدعوة إلى إلغائها، وهو ما يشكل عمليًّا محاولةً أمريكية لشطب موضوع اللاجئين من قائمة القضايا التي تحتاج إلى حل، وذلك بفرض توطينهم في البلاد التي يوجدون فيها الآن، ثم جاء إعلان قطع المساعدات الأمريكية عن السلطة الفلسطينية، في الوقت عينه الذي شُدد فيه الحصار المالي والاقتصادي على المقاومة عربيًّا ودوليًّا، لتمهّد سياسات التجويع للقبول بمقابل مادي لـ"الصفقة" غير المعلنة، وبعده جاء إغلاق مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن ليؤكد توجهًا صهيونيًّا-أمريكيًّا مشتركًا بتجاوز رأي الفلسطينيين والذهاب إلى تسوية إقليمية.

كانت كل تلك الإجراءات تجبي أثمانًا دون أن تعرض شيئًا حتى الأسبوع الثالث من شهر أيار (مايو) 2019م، حين أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤتمرًا اقتصاديًّا في البحرين لمناقشة الاستثمار في الأراضي الفلسطينية، مع تحديد ما بعد رمضان موعدًا جديدًا لإعلان بنود "صفقة القرن"، وأمام الغموض اللفظي الذي تعمدته الولايات المتحدة تجاه "الصفقة"، تبدو قراءة الأفعال الوسيلة الأنجع لتحديد المقصود بها، فهي حل تصفوي لقضية فلسطين يسلم القدس للصهاينة، ويصفي قضية اللاجئين بتوطينهم حيث هم الآن، ويمهد لفرض هذه التصفية بتجويعٍ وخنقٍ اقتصادي وتنسيقٍ مع أطراف إقليمية لتدخل في "الصفقة"، كل ذلك مقابل مبالغ مالية واستثمارات وحوافز اقتصادية للفلسطينيين يبدو واضحًا أنها ستكون عربية بالأساس.

لا تتمتع تلك "الصفقة" بحالة قبولٍ واسع بالمقابل، فهناك إجماع شعبي واسع على رفضها فلسطينيًّا وعربيًّا وإسلاميًّا، وإجماع من الفصائل الفلسطينية على رفضها (في الموقف المعلن على الأقل)، ورفض رسمي أردني معلن لها، ورفض من أطراف عربية وإسلامية أخرى كتونس ولبنان والكويت وقطر والعراق وإيران وماليزيا، فضلًا عن أن الأطراف التي يشاع أنها معنية بتمريرها والتمهيد لها لم تجرؤ على التصريح بمحتواها وبدعمها لها علنًا، وحافظت على تنازلات تدريجية خجولة في الموقف مقرونة بالصمت، على الأقل على المستوى السعودي.

في الوقت عينه، تأتي محاولة فرض تلك الصفقة في بيئة تراجع صهيوني متتالٍ أمام المقاومة في غزة على مدى عامٍ من مسيرات العودة، وعلى مدى10 جولاتٍ من التصعيد خلالها كانت قدرات الردع الصهيونية تتراجع فيها شيئًا فشيئًا، في حين الثقة الفلسطينية والقدرة والمدى الصاروخي تتصاعد تدريجًا، أما في القدس فتأتي محاولة فرض تلك الصفقة في بيئة تراجع صهيوني أمام الفعل الجماهيري في هباتٍ متتالية، بدءًا من انتفاضة السكاكين، وإعلان تفاهمات كيري في شهر 10-2015م، والتراجع عن محاولة فرض التقسيم الزماني للأقصى في حينه، مرورًا بهبة باب الأسباط في 7-2017م وتفكيك البوابات الإلكترونية والكاميرات، والتراجع في الخان الأحمر في 10-2018م، وأخيرًا هبة باب الرحمة في 2-2019م، وإعادة فتح مصلى باب الرحمة المغلق منذ 16 عامًا بإرادة جماهيرية غامرة خشيت القوة الصهيونية مواجهتها.

وقد تعززت رياح إغراق الصفقة مع فشل نتنياهو في تشكيل حكومته، في إثر إصراره على تشكيل ائتلافٍ يميني صرف أجهض ليبرمان التئامه، فالعرب الذين سيؤتى بهم لإضفاء المشروعية على الصفقة لن يجدوا طرفًا إسرائيليًّا جاهزًا لتسلم هديتهم الثمينة تلك، والانتخابات القادمة مقررة في النصف الثاني من شهر 9-2019م، ما يعني أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة لن ترى النور قبل نهاية شهر 10-2019م، بحلول ذلك التاريخ ستكون الإدارة الأمريكية ذاتها قد باتت مشغولة بالانتخابات الرئاسية التالية المقررة في شهر 10-2020م، مع احتمالية ألا يتمكن نتنياهو وترامب أو أحدهما من العودة إلى موقعه لإتمام ما تركاه معلقًا في الهواء.

على المستوى الدولي لا تحظى بنود صفقة القرن بقبول أوروبي في موضوعات القدس وشطب (أونروا) والحصار الاقتصادي للسلطة على الأقل، ولا القبول الروسي والصيني، ما يعني باختصار أن قراءة المشهد على المستوى الميداني والإقليمي والدولي تنبئ بإمكانية إفشال "صفقة القرن" ومنعها من التحول إلى واقعٍ مفروض، إذا ما تحركت جبهة عريضة من القوى العربية والإسلامية تحمل لواء هذا الرفض، فتعزز وتستثمر وتفعل عناصر القوة في مواجهتها، وإن اكتفت بأفعال الحد الأدنى التي تتيحها الظروف الحالية.