كل ما فعله الرئيس الأمريكي لصالح (إسرائيل)، لا يزال حتّى الآن في إطار منح الشرعية الدولية لواقعٍ فرضته (إسرائيل) أصلاً دون أن تنتظر شرعية من أيّ نوع. لم تنتظر (إسرائيل) قراراً أمريكياً لتضم القدس وتُقيم فيها سُدد الحكم الصهيوني، ولم تنتظره كذلك لتُقيم مستوطناتها ومصانعها في الجولان السوري المحتل. ينطبق الأمر نفسه على "صفقة القرن". لذا، وبدلاً من هدر الوقت في السعي العبثي وراء سبقٍ "يكشف بنود الصفقة لأول مرة!"، يُستحسن البحث عما يجري على أرض الواقع - ما تصنعه (إسرائيل) بتواطؤٍ من وكلائها. فالحقيقة أن وصل الجسور بين رجال الأعمال الفلسطينيين والإسرائيليين لا يحتاج سفراً ولا ورشةً في البحرين، فلدينا في الضفة الغربية مصنع كامل (وبإنتاجية عالية) لسلام اقتصادي تحت الاحتلال، برعايةٍ إسرائيلية ومباركةٍ مِن -وأرباحٍ لـ - السلطة الفلسطينية.
نعرف السلام الاقتصادي جيداً، نراه في كل زاويةٍ في فلسطين: إفقار الناس، تجويعهم وخنقهم، ثم عرض (إسرائيل) كمنفذٍ واحدٍ ووحيد إلى حياةٍ معقولة يتأمن فيها الحد الأدنى من المعيشة والكرامة. ببساطة: ربط الخبز بالخضوع التام ل(إسرائيل)، وبالوقت ذاته أن يستفيد الاقتصاد الإسرائيلي من اليد العاملة القابلة للاستغلال، ومن قوّة الشراء الفلسطينيّة. السلام الاقتصاديّ معناه أن يحصل أكثر من 100 ألف عاملٍ فلسطينيّ على تصريح عملٍ داخل (إسرائيل) – تصاريح شرطها الأساسي عدم وجود "مانع أمني". أي أنها ورقة ابتزازٍ دائمة تتحكّم فيها (إسرائيل) باعتباط تام، فتتمكن من استخدامها متى تشاء إما لترهيب الناس وإبعادهم عن أي خطٍ سياسي، أو الأسوأ من ذلك، إسقاطهم في فخ العمالة. السلام الاقتصادي معناه أن تُنتج المصانع الفلسطينية بتكلفة لا تُذكر بضائع لأفخر الشركات الإسرائيلية، وأن يعمل خريجون فلسطينيون من جامعة بيرزيت في شركات تكنولوجية "فلسطينية" وسط رام الله، ويوظفوا فيها مهاراتهم ومعرفتهم، ليظهر لاحقاً بأنها شركات متعهِّدة لشركات تكنولوجية إسرائيلية ضخمة. السلام الاقتصاديّ معناه أن تشل (إسرائيل) السوق الفلسطيني من خلال ما تفرضه من ضرائب على الاستيراد إلى الضفة الغربية، تضاعف أسعار المنتجات في السوق الفلسطيني، ثم تفتتح مجمّعات تجارية إسرائيلية على أطراف المستوطنات تبيع بأسعارٍ منخفضة، فيتدفّق إليها الفلسطينيون لسد حاجاتهم.
هذه هي العلاقات السلمية المعروضة على الفلسطينيين.
ما يُسمى "السلام الاقتصادي" هو استراتيجية إخضاع يُديرها جيش (إسرائيل)، وهي تقوم على أسس اجتماعية من التنسيق المباشر والدائم بين الاحتلال والقيادات المحلية والعائلية التقليدية، بموازاة (وبما يتجاوز) التنسيق مع المستوى السياسي والأمني التابع للسلطة. وبمقابل هذا التنسيق، فإن الجيش الإسرائيلي يواجه أي فعلٍ مقاوم باستخدام عقوبة جماعية محصورة اجتماعياً: سحب تصاريح العمل من أبناء عائلة منفّذ العملية فقط، أو أبناء قريته فقط، وبشكلٍ مؤقت، بينما تبقى القرى المجاورة أو حتى العائلات المجاورة تذهب إلى عملها في المستوطنات الإسرائيلية بشكلٍ طبيعي. يعزز الاحتلال قيادة تقليدية بديلة عن السلطة، وتعود هذه القيادات التقليدية إلى أطوار بدائية من التفكير بالمصالح الضيقة لعائلتها ولقريتها ولنفسها. عقلية تقوم على النفاق والتذلّل وانعدام الأخلاق والكرامة أمام المُحتل. حتّى بتنا نرى مشاهد مشاركة المستوطنين في أعراسٍ فلسطينية (مثل قرية دير قديس قضاء رام الله)، أو أنهم يُدعَون إلى موائد رمضان!
لم ينشأ هذا الواقع بين ليلةٍ وضحاها، بل هو صنيع صيرورة إفقارٍ وإنهاك طويلة للمجتمع الفلسطيني، وتحطيم منهجي للتضامن والتكافل الاجتماعيين.
بهدف الحفاظ على سلطتها الصورية، طبّقت سلطة رام الله بعد الانتفاضة الثانية إصلاحات اقتصادية تحت مُسمّى "التنمية"، أعطت من خلالها قوةً مطلقة للبنوك ومن ثم الشركات الخاصة. وتحت مسمّى "الشفافية"، انسدّت جميع قنوات الدعم الخارجي لصمود الشعب الفلسطيني. أغرقت الضفة الغربية بالقروض منفلتة العقال، والإعلانات المشجِعة للاستهلاك، واقتصاد الخدمات الذي لا يقابله أي انتاج، بل ويُسلِّم تماماً بسيطرة الاحتلال على كافة الموارد والمنافذ والبنى التحتية. كما منعت السلطة وحاربت كل أشكال المقاومة وخنقت كل مساحات التعبير والتنظيم السياسي. هي أسست نظاماً أمنياً واستخباراتياً يقمع ويُرهب الناس ويتجسّس عليهم، حتّى باتت كل زاوية في الضفة الغربية تخضع لمخبري السُلطة وجنودها - كل هذا لتثبت "للعالم" (أي للبنك الدولي وصندوق النقد والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة) "جهوزيتها" لإقامة الدولة.
في قلب هذا الواقع تعمل (إسرائيل) وتطبِّق استراتيجيتها التي تدمج العسكري والاجتماعي والاقتصادي في آن، إذ ترى في وجود المجتمع الفلسطيني هدفاً عسكرياً قائماً بحد ذاته. هذا هو الواقع الذي تسيطر فيه (إسرائيل) على الضفة الغربية سيطرة تامة، وتضمها إليها عملياً حتى وإنْ أعطت السلطة الفلسطينيّة سيادة صورية ما لإدارة الحياة المدنية (بما يريح (إسرائيل) ويفيد مصالحها). هذا هو واقع "ضم الضفة الغربية" قائماً بأوضح أشكاله، يريد ختماً أمريكياً جديداً يُسمّى "صفقة القرن"، لكنه لا ينتظره. أما القيادة السياسية الفلسطينية وجدت في مصطلح "صفقة القرن" ملاذاً لتستعيد صوتاً وطنياً وتغني فيه على لحن "الرفض والصمود والتمسك"، بينما نحن نسمع نشازها بمنتهى الوضوح، ونعرف على جلدنا مدى تورّطها في خلق هذا الواقع الأسود.
السفير العربي