لا يصدق عاقل أن الرئيس الأمريكي ترامب تراجع عن توجيه ضربة عسكرية إلى إيران حين علم أن عدد القتلى سيصل إلى 150 مواطنا إيرانيا. منطق الرحمة والإنسانية هذا يتناقض مع السياسة الأمريكية العامة، ويتنافى مع تاريخ أمريكا التي قصفت اليابان بالقنابل النووية لحسم الحرب العالمية الثانية، ويتنافى مع جرائم أمريكا التي قصفت الشعب الفيتنامي بالقنابل المحرمة دولياً، ويتنافى مع إرهاب أمريكا التي قصفت ملجأ العامرية في العراق سنة 1991، وقتلت المئات من العرب العراقيين دون أن يرف لها رمش!
أزعم أن هنالك أسباباً أخرى حالت بين ترامب وتنفيذ عدوانه على إيران، ناقشها كثير من المحللين السياسيين العرب والأجانب، وأجمعوا أن السياسة الأمريكية تقوم على شد الحبل إلى أقصى مدى، دون التورط في حرب غير مضمونة النتائج، وهذا الحذر الأمريكي بحد ذاته يشي بقدرات إيران القتالية، ويكشف على تقدمها العملي والعلمي والتكنلوجي الذي أضحى قادراً على رصد أحدث التقنيات الأمريكية، التي تمثلت باكتشاف الطائرة المتخفية، ورصدها من نقطة انطلاقها، ومتابعة لحظات تحليقها، وتحذيرها قبل إسقاطها، ومن ثم لملمة البحرية الإيرانية أشلاءَها، كل ذلك قبل أن تفيق أمريكا من هول الصدمة.
وحتى هذه اللحظة، فقد واصلت إيران التحدي، ولم تنكسر، ولم تخضع، ولم ترفع راية المذلة، ولم تسلم مقدرات شعبها للغطرسة الأمريكية، بل نجحت إيران في تسجيل نقاط عسكرية عدة لصالحها، أسهمت في تشويش الرؤية الأمريكية لمستقبل الصراع في المنطقة ككل.
إن عدم قدرة أمريكا على حسم المعركة ضد إيران في زمن قصير، مع عدم ضمان النتائج، كان سبباً كافياً في إحجام أمريكا عن المغامرة، فإذا أضيف إلى ما سبق احتمال توسع مساحة الحرب إلى الدرجة التي تتضرر معها المصالح الأمريكية في المنطقة، وعلى رأس هذه المصالح دولة الكيان الصهيوني نفسها، والتي أمست واقعة تحت قصف الصواريخ من الشمال والجنوب، بل أمست واقعة تحت الاجتياح، واختراق حدودها التي ظلت حتى زمن قريب محصنة من الاختراق، وأزعم أن بقاء دولة (إسرائيل) هو أكثر الأشياء قيمة وأهمية بالنسبة لأمريكا عامة، وللرئيس ترامب وإدارته خاصة.
هذا المنطق المتسلسل للأحداث يفرض علينا تفنيد تفكير أولئك الذين يرون في القدرات الأمريكية فوق الخيال، وأنها خارقة إلى الدرجة التي تسمح لأمريكا بأن تناور، وتظهر الضعف، وعدم القدرة على الرد، كي تثير الفزع والرعب في نفوس أعداء إيران من الملوك والحكام العرب، الذين صدمتهم المفاجأة، وأهانهم عدم الرد الأمريكي على التطاول الإيراني الذي أصاب ناقلات النفط، وأصاب موانئ النفط، وأصاب التكنولوجيا الأمريكية نفسها بالذهول، وأزعم أن هذا التفكير غير وارد في السياسة الأمريكية التي لا يعجزها جمع المزيد من أموال الدول العربية، ولا يثنيها شيء عن تحقيق المزيد من الابتزاز السياسي، ولا سيما أن ورشة البحرين ستلتئم بحضور وفد إسرائيلي برئاسة الجنرال يوآف مردخاي، منسق الحكومة الإسرائيلية السابق في الضفة الغربية، لتفتتح أمريكا ورشة البحرين، وتفتح معها خزائن المال العربي وفق هوى الاقتصاديين الإسرائيليين، ليغترفوا منها ما يسهم في تسهيل عملية ضم الضفة الغربية.
من حق دولة إيران الإسلامية أن تبادر بالهجوم هنا هناك، فهي المتضررة من الحصار، والمتضرر لن يقبل ببقاء الحال على ما هي عليه، لذلك ستحرص إيران على تغيير المعادلة الراهنة، فإن لم يتحقق لها ذلك بالطرق الدبلوماسية، فإنها ستبادر في الأيام القادمة إلى شن هجوم جديد، قد يكون بعيداً هذه المرة عن دول الخليج، وقريباً من (إسرائيل)، مكمن الوجع الأمريكي، كما حذرت من ذلك الصحافة الإسرائيلية.