عاش أبو فايق مع زيتون أجداده منذ صباه، خمسًا وثلاثين سنة، ويده الحانية تربت على شجره ليل نهار، منذ ذلك الوقت الذي تسلم أبو فايق الراية من أبيه على أرضه البالغة واحدًا وعشرين دونمًا (من أراضي قرية اللبّن)، الزيتون ينمو ضاربًا جذره في الأرض محلقًا بفروعه نحو عنان السماء، هناك انسجام روحي بين هذا الزيتون ومرشده الروحي أبي فايق: صاحبه وراعي حماه ومن يقوم عليه بحب وشغف، وكان لهذه الأرواح الجميلة ومرشدها حوارات شائقة وسعيدة، يطوف عليها أبو فايق، يتشممها واحدة واحدة، يلقي عليها التحية والسلام ويحاكيها:
- شجراتي المباركات، أنتن ملح الأرض وعبق التاريخ المجيد لهذه الفلسطين العظيمة، أنتن الروح فينا والنور في حياتنا والبلسم لجراحاتنا، لن أتخلى عنكن إلا إن تخليت عن روحي.
- أرواحنا فداء لك أبا فايق، لك الفضل الكبير علينا، نحن منك كما أنت منا.
- هذا هو الأمل المزروع فينا، إنا معكن نحرس التاريخ ونزرع المستقبل، حماة رسالة الأجداد على هذه الأرض، سنصمد وسنقف في وجه كل من يحاول تزوير تاريخ هذه الأرض.
- ومن يجرؤ على هذا، أبا فايق؟
- هناك احتلال متربص بنا، أخشى عليكن منه.
- ولماذا يعادينا ويتربص بنا؟!، هل صدر منا شيء يؤذيه؟
- العدوان هو صفته الدائمة، لا ينتظر من أحد أن يؤذيه حتى يصب عدوانه عليه، إنه الاحتلال.
- ولكن نحن -معشر الزيتون- لا نعطي إلا الزيت والنور، ولا يظهر منا إلا خضرتنا اليانعة الجميلة، نتحف الناظرين، ونغني موائد الناس أجمعين بصبغ للآكلين.
- ونحن -الفلسطينيين- كذلك أهل بر وجود وكرم، مسالمون لا نؤذي أحدًا، ونكرم كل من حضر ديارنا ضيفًا، كان اليهود بيننا، يأكلون من أكلنا، ولهم ما لنا، إلى أن تلبّستهم فكرة الاحتلال، أرادوا البلاد لهم وحدهم بكل ما فيها من ثروة وخيرات.
- يا لهم من أشرار!، وهل يصل بهم عدوانهم إلى الشجر الذي ليس له من الأمر إلا صناعة الثمر؟!
- لقد دمروا وقطعوا آلاف الحقول المليئة بالشجر، أطلقوا نارهم وأعملوا جرافاتهم، أطفئوا نور زيتوننا بظلامهم، وطمسوا الشذى من زهر البرتقال.
- أي نوع من البشر هؤلاء؟!
- إنهم جبلّة نكدة لا تعرف سوى القتل والدمار وأسوأ العدوان.
قبل عدة أيام نعق الغراب وصاح مناد في قرية اللبن: "جرافات الاحتلال، الغول المجنزر ينزل ساحة حقل أبي فايق"، الزيتون يقاوم، اعتاد منذ قديم الزمان أن يقاوم بالثمر من يلقي عليه الحجر، هذه المرة أجسام هائلة من الحديد المتحرك الذي لا قبل للزيتون به ولا حيلة ولا مناص، استغاث الزيتون وبرئ إلى السماء من فعل هؤلاء، ضجت الدنيا بهذه الاستغاثات، كل العوالم سمعت من الإنس والجان، أذن واحدة لا تسمع سوى هدير الجرافات وصوت الشر في أعماقها، أذن الاحتلال لا تسمع، وعينه لا ترى، لا قلب له ولا عقل ولا إنسان.
وقف أبو فايق على حرثه يستمع بصمت إلى أنين شجره، كان صريعًا بكل ما يحمل من آلاف السنين المحملة بأعظم الذكريات، خرّ التاريخ صريعًا على أرضه، ضاعت الجغرافيا، وصعدت روح الأرض إلى بارئها، خرج قلبه من صدره، وراح يقبل الشجر الصريع قبلة وداع حارة.
ودّع أبو فايق ماضيًا عريقًا ترجل وارتحل، واستقبل قادمًا ينذر بقرب نهاية محتل أجاز لظلمه أن يبغي على وداعة الزيتون ونور الحياة والأمل.
لن يطول زيفك على هذه الأرض، وستلفظك قريبًا، ما دمت لا تسمع ولا ترى ولا تعرف قيمة هذا الشجر.