العبادات -ومنها الصيام- تأتي وراءها أخلاقٌ موازية لها لا يمكن حسبانُ أدائها لصاحبها إلا بمجيئه بالخلق المطلوب تحقيقه منها؛ فالصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر، والزكاة تزكّيه وتطهره من الشحّ وحب الذات، والحجّ يجمعه بجميع إخوانه المسلمين، أما الصيام ففضائله كثيرة، ومنها أنه يقيم في الإنسان حقيقة المسلم الذي لا يمكن أن يكون معها على مراد الله، إلا إذا صامت منه جوارحه الخفيّة كما صامت الظاهرة منها.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" [البخاريّ].
وفي الحديث أن الزور يحبط أجر الصائم، وأن من نطق به في صيامه كالآكل الشارب عند الله (تعالى) في الإثم، وهنا تأتي الدلالة المؤكدة في الحقيقة الفضلى الساطعة المثلى من الصيام، وأنه لا يكون كذلك إلا إذا نجح صاحبُه في الاختبار العمليّ، وأن يفهم الصائم أن صومَه امتناعٌ عن جميع أنواع المفطّرات، وأخطرها التي يفطر بها قلبُه على حرام من غش وحسد وحقد وغل وشحناء وكبر، وروحُه على عدم حب الخير لغيره، وعدم النصح لهم، وعدم التزام جماعتهم، والكيد بهم، والتخطيط بما يسوؤهم، وهي -لعمري- مفطّرات أخطر من مفطّرات بطن وفم؛ لأنّ الذي يجرح الجَنان ويبث الفرقة والخلاف بين الخلان والأقران أدعى أن يُحذَّر منه ويُخاف منه؛ فبه تتداعى الأمم وتهوي بأهلها وناسها، وقد لا يجدون وقتذاك من يقيم عليهم مأتمًا وعويلًا.
وجاء الحديث برواية أخرى عند البخاريّ، فيها زيادة على (قول الزور والعمل به) قوله (والجهل)، وهو نقيض الحِلم في الحديث لا نقيض العلم، وإن كان يعانقه من أحد وجوهه، وهذا تأكيد جديد على أنّ ضبط الأعصاب والتحكم بها منبئٌ أنّ صاحبها صائمٌ، وإلا فلا.