فلسطين أون لاين

​"فلسطين" تروي قصة حياة "الطفل الكبير" بلسانه

أحمد لُبَّد و"السرطان".. الحلقة الأخيرة

...
الطفل أحمد لبد
غزة - نبيل سنونو

أذكر كيف وقفت أمام الكاميرا قبل أعوام، لأشرح على السبورة درس الألف المنقلبة عن واو، كأنما كنت وردةً تتراقص على أنغام الفرح في عزّ الربيع، رأيت نفسي حينها أستاذا أو طبيبا رائعًا، رغم أنني لا أزال طالبًا في المرحلة الثانوية، وينتظرني عملٌ كبير لأحقق ما أصبو إليه.

طموحي كبير جدا، لا أعلم، إنْ كانت له حدود، إنني أنظر إلى البحر لكن طموحي أعمق، وأرقب السماء لكنه أوسع، واجتهدت كثيرا لاجتياز محطات مهمة في طريقي نحو تحقيقه، فكنت طيلة أعوام الدراسة من أوائل الطلبة على مستوى مدارس شمال قطاع غزة، حيث أقطن.

تدعمني أسرتي، التي تملأني دفئًا، بكل ما أوتيت من وسائل في تحقيق طموحي، هي أسرة متعلمة وتعرف جيدا أنني أبحث عن التميز.. كم أحبك يا أبي، يا أمي، ويا إخوتي الثلاثة!

أشعر كما طير يحلق فرحًا في عنان السماء، كلما استحضرتني نعمة غرفتي.. نعم هي نعمة، أعتبرها بيتا لي داخل بيت العائلة، سريري، مكتبي، دفاتري، إنها تشبهني! بالمناسبة يقول الناس عني: أحمد يشبه شعره الليل في سواده، وملامحه البريئة القمحية كأنما استمدها من تراث فلسطين الأصيل.

"أحمد ذكي ومتميز جدا"، هكذا يصفني أبي (معين) الذي أفتخر بجدِّه وكفاحه وبكل شعرة شيب تغطي رأسه، وهو محق في ذلك، ليس مديحا لكنها الحقيقة التي أشكر الله عليها، كنت سريع الفهم لما يشرحه المدرسون في المدرسة، ثم أعود إلى البيت لأتابع الدارسة وأؤدي الواجبات.

غمرني السرور، كما إنسان حصل للتو على شهادة فريدة في التميز، عندما كان بعض المدرسين يمنحوني فرصة أن أكون مدرسا لمجموعة من زملائي الطلاب، لأشرح لهم الدروس، وأحيانا كنتُ أشرح حصة كاملة.

أعلمُ جيدا أنني أعيش في غزة المحاصرة برا وبحرا وجوا، وأن الكهرباء مقطوعة في ثلثي اليوم تقريبا، والحرُّ صيفا يحاصرنا من كل جانب، كما سائر الغزيين، لكنني ما استسلمتُ يوما، والدليل أنني واصلت التقدم في محطات التفوق.

ذات مرة قَدِمَت مؤسسة أمريكية إلى مدرستي المسماة "أبو عبيدة" شمال القطاع، لتسأل عمن يرغب بالانضمام إلى برنامج تعلم اللغة الإنجليزية، وكنت أول من رفع يده وقلت: أنا، التحقت بها، وقدمت الامتحان ونجحت وحصلت على مرتبة متقدمة.

الإنجليزية لغة عالمية وأنا لها من الهاوين، أذكر كيف تمكنت من خلالها، من الدفاع عن سيدي رسول الله محمد، في وجه كاريكاتير رسمه أحد الأشخاص في الغرب.

كان ذلك خلال مهرجان في باحة المسجد القريب من منزلنا، التي عجت بالصحفيين وأهالي الحي، طُلِبَ مني أن ألقي كلمة بالإنجليزية نصرة للرسول محمد.

أحب أن تكون لي بصمة خاصة في كل الميادين، العلمية والاجتماعية والثقافية، لم يُنظم مهرجان واحد في المدرسة أو المسجد إلا وكنتُ مشاركا فيه، ولطالما حظي ذلك بإعجاب الجميع.

ستعذرونني إنْ رددت كلمة طموح كثيرا، فالطموح هو النبض الذي أحيا به، أريد أن أكمل تعليمي وأن أصل إلى مراحل عليا.. بالمناسبة، تميزي ينطبق على كل شيء في حياتي، هكذا يقول الناس، ويستشهدون على ذلك بأناقتي.

كذلك ستعذرونني إنْ رددت ذكر أبي وأسرتي، كم أحبهم يا الله! لئن طلبتم من أبي التحدث عن عمق علاقتي بهم سيجيب: - "ما شاء الله عليه، كلنا بنحبه، وهو بيحترمنا، أقول له: ادرس يابا يدرس، وأصحابه في المنطقة كلهم يحبونه، هو ذو أخلاق عالية منذ طفولته.. الحمد لله."

الآن أبلغ من عمري 16 عامًا، هذا يعني أنني أتقدم نحو طموحي بخطى حثيثة.

الغزو المفاجئ

فبراير/شباط 2016، عدت من المدرسة كنت أشعر بوجع في مفصلي، وأخبرت أبي بذلك، وبعدها بيومين عدت لأخبره بألمٍ آخر حل بي، وكان الاعتقاد أنه اعتيادي يستدعي المُسكّن، ثم بعد أسبوع شعرت بألم في منطقة أخرى، فقرر أبي اصطحابي للأطباء المتخصصين في العظام وغيرها.

وفي سبيل معرفة أسباب الألم، خضعت لاحقا لـ17 تحليلا، ظهرت فيها النتائج سليمة، ولم يظهر فيها شيء من الأمور الخطيرة، فارتاح أبي نفسيا حينها، واعتقد أن سبب الألم سيكون بسيطا، وأعطاني أحد الأطباء بعض العلاجات.

أنا بالمناسبة حين يكتب لي طبيب علاجًا أقرأ اسمه وأتعرف على ماهيته، وكذلك حينما أخضع لتحليل أسأل عنه، وأذكر أنني سألت الطبيب بعد تحليل اختبار الدم: أين نتائج "السي بي سي"؟ أريد أن أراها، لدرجة أن الأطباء كانوا يُذهَلون من ذلك.

كان الأطباء يتحدثون بالإنجليزية حتى لا أعرف ماذا يقولون، لكني كنت أفهمهم وأترجم، قالوا لي: - "أنت يا أحمد أجنبي ما شاء الله! بكرة بتروق وبتيجي انت مكاننا وبتعالجنا"، فرددت عليهم: إن شاء الله لا تحتاجون أحدا.

توجه أبي لعدد من الأطباء المتخصصين وعرض عليهم نتائج التحاليل الـ17، وكل طبيب يعطيني "كورس" علاج، ينتهي دون فائدة، وكانت المُسكّنات دائما في جيبي أصطحبها للمدرسة، لأنني لا أريد التغيب عنها، وأقول لأبي: لما أتعب يا بابا أتناول حبة مسكن، ثم أعود من المدرسة متعبا وأخبره: تناولت المسكن وذهب مفعوله.

لكن السخونة باتت ترافقني على مدار اليوم، فاصطحبني أبي للمستشفى، كان جزاه الله خيرا، يصطحبني بشكل متتال للأطباء وكنت أخضع لتحاليل منذ فبراير المذكور.

ثم توجه بي أبي بناء على نصائح متعددة، لشيوخ، وكما يقال: قطع لي الخوفة، واستحميت بمياه مقروء عليها القرآن، إذ كان أبي يبحث عن طريقة تؤدي بي إلى التعافي من خلال الطب، والقرآن.

لكن السخونة كانت عالية جدا وذهب أبي لاحقا إلى المستشفى عند الثانية ليلا، وقلت له: يا بابا، تعبان، وخضعت لتحليل "سي بي سي"، وأعطاني الأطباء إبرة تخفض درجة الحرارة المرتفعة.

بدت طرق العلاج مسدودة. عرضني أبي، الذي كان يخفي عني أي معلومة يمكن أن تضر بي معنويا، على طبيب متخصص بالدم، ثم توجه بعدها لطبيب الباطنة وكانت درجة حرارتي مرتفعة، وهناك قام الطبيب بعمل صورة لبطني وحوالي أربع تحاليل طبية.

لاحقا، خضعت لتحاليل أخرى، لكن آخر تحليل طلب مركز التحاليل الذي توجهنا إليه، انتظار النتائج لأيام، وطالت فترة الانتظار، ولم يكن هناك تشخيص حاسم لأسباب الألم معلوما لأبي بعد، توجه أبي لطبيب وطلب منه إخباره بنتيجة ذلك التحليل، فقال له: "لا أعطيك نتيجة 100%، هناك اشتباه أن عنده أمراض سرطانية في الدم."

يقول أبي: - "لا أحد في المستشفى من دكتور أو ممرض لم يحب أحمد، جميعهم أحبوه، ويطمئنون عليه بالسؤال."

أخبر بعض الممرضين أبي أن كل يوم يمر عليّ في غزة بهذه الحالة أزداد سوءا، ولهذا توجه إلى خيار العلاج في الخارج.

في هذه الفترة كنت أرى توأم روحي فايز لُبَّد (ابن عمي)، كنت متفائلا جدا بالسفر لنابلس في الضفة الغربية المحتلة، حيث سأتلقى العلاج، وقلت له: يا فايز، لما أعود سأقص شعري وأشتري ملابس جديدة وأقدم الحلوى للجميع.

فايز مثلي، كأننا فولة وانقسمت نصفين، شكلا وروحا وطموحا، يحبني كثيرا يقول عني: - "أنا صديق أحمد منذ أن وعيت على الدنيا، نحن مع بعضنا منذ صغرنا في الروضة ثم المدرسة، ومنذ خمس سنوات على وجه التحديد ندرس أنا وهو في صف واحد نجلس إلى جانب بعضنا البعض، ونشارك في مهرجانات ثقافية، وفي الفترة الأخيرة شاركنا بكل مدارس شمال القطاع بمسرحيات عن القدس، وقد تم تكريمنا."

ويزيد فايز: "لدي أنا وأحمد رسالة أن نصعد ونرتقي وننمي مواهبنا.. بالإضافة لذلك أحمد نظامه في التدريس ممتاز، وكانت له دروس منشورة عبر موقع التواصل فيسبوك وهو يشرح درس اللغة العربية، ولروعة أسلوب تدريسه لما كان الأستاذ يقسم الطلاب لمجموعات يتنافس الجميع ليكون في مجموعة أحمد." (...) "إذا جلس أحد مع أحمد فإنه يحبه، هو محبوب من الجميع، ويمازح أصدقائه، وكثيرا أصعد إلى بيته وأيقظه من نومه، وكذلك يفعل هو، ينزل إلى بيتي ويوقظني، ونذهب إلى المدرسة معا، لا يمكن لي أن أتخيل أن أسير يوما إلى المدرسة إلا مع أحمد."

أحبك يا فايز! كل نبضة في قلبي تردد هذه الجملة: أحبك يا فايز! أحبك!

بعد شهور قضيتها في غزة بحثا عن علاج، توجهتُ مع عمي لمدينة نابلس في الضفة الغربية المحتلة، هناك أخبر الأطباء عمي أن حالتي متأخرة، والوضع صعب جدا، وطلبوا منه التوقيع على نسبة نجاح 10% فقط لعملية علاجي.

كان عمي يتواصل مع أبي، ولم يخبره بالتفاصيل لئلا يحبطه، وقال له: - "ادع لأحمد إن شاء الله خير، معه التهاب في الدم، وقد بدأنا المرحلة الأولى من العلاج."

فور وصولي لنابلس تحدثت مع أبي، وبعد ثلاثة أيام تحدثت معه مرة أخرى، وبعدها بدأت أشعر بالتعب وعدم القدرة على الكلام، فلم أتحدث معه طيلة ما تبقى من الأيام في نابلس التي كان مجملها نحو أسبوعين، ووضعني الأطباء في العناية المركزة.

هناك، ليل السبت 19 نوفمبر/تشرين الأول 2016، وبسبب هذا المرض الذي لا يزال يهدد حياة غيري في قطاع غزة، فاضت روحي إلى بارئها..