فلسطين أون لاين

يخون المصور عدسته عندما يجبن

مصور "الجزيرة" ​محمود عبيد ..وقصة "شيخ المصورين"

...
صورة أرشيفية لمحمود عبيد
غزة - عبد الرحمن الطهراوي

كان صوت المراسلة هبة عكيلة يرتجف عندما اتصلت بإدارة مكتب قناة الجزيرة في غزة، لتخبره في نبأ أولي باستشهاد مصور القناة محمود عبيد.

وبعد أجزاء من الدقيقة برز الشريط الأحمر المعنون بـ"عاجل" على شاشة القناة، مفيدًا بأن "القوات الإسرائيلية استهدفت طاقم عمل القناة شمال قطاع غزة"، والتفاصيل فور توافرها.

حينها وقف الجميع على ساقٍ واحدة ثم انقسموا إلى نصفين متساويين بآثار الفاجعة: الأول انشغل بمتابعة حيثيات الخبر مع المراسلة، والآخر تابع أخبار مجزرة جديدة ارتكبها الاحتلال في المكان نفسه الذي فقد الاتصال به مع عبيد.

مرت دقائق وكل الأخبار الواردة من ميدان المجزرة تدور في فلك واحد: "الطواقم الطبية تنتشل شهيدًا جديدًا.. عشرات الجرحى متناثرون في المكان.. النيران مشتعلة"، أما المصور المفقود فلا أي أثر له حتى الآن.

وفي خضم تلك المعمعة صاح صوت من بعيد على مراسلة القناة ليخبرها أنه قد رأى "أبا رامي" هناك، مشيرًا بأصبعه إلى زاوية مليئة بالدماء.

ولكن، بأي حالٍ رأى ذلك المنادي أبا رامي؟، وما الذي دفع الأخير إلى استقلال سيارة الإسعاف أصلًا؟، ولماذا لُقّب بـ"شيخ المصورين"؟، تلك الأسئلة وغيرها سنتعرف إلى أجوبتها خلال الحوار التالي الذي أجرته صحيفة "فلسطين" مع المصور في قناة الجزيرة الفضائية محمود عبيد.

معادلة غريبة الأطوار

بدأ "ضيفنا" حديثه بإلقاء إضاءةٍ سريعة على هويته الشخصية، فقد وُلد عام 1958م لعائلة فلسطينية هجرت من قريتها الأصلية المجدل وسكنت في مخيم جباليا للاجئين، وفي مدارس (أونروا) درس الابتدائية والاعدادية ثم ترك الدراسة في المرحلة الثانوية.

بقليل من الصمت أخذ عبيد يستحضر أرشيف ذاكرته الخمسينية، قائلًا: "لم أستطع إكمال المسيرة التعليمية بسبب الظروف الاقتصادية التي عايشتها عائلتي بعد احتلال قطاع غزة واندلاع المواجهات المتكررة، لذا تركت المدرسة وبدأت أساعد والدي في تلبية شؤون حياة ستة أولاد وأربع بنات".

ومع تلك الحياة المعيشية القاسية تشكلت معادلة غريبة الأطوار؛ فالأب المكافح يصل ليله بنهاره ليوفر لقمة عيش كريمة لعائلته، أما ابنه فيجمع "الأغورة" على "الشيكل" ليشتري كاميرا فوتوغرافية صغيرة، يكاد ثمنها يطعم عائلته أيامًا عدة.

وأضاف الرجل الذي غزا الشيب شعره: "أحببتُ عالم الكاميرا دون مقدماتٍ، فبدأتُ منذ الصغر بجمع المال الذي أحصل عليه من عملي في الأسواق التجارية لاشتراء آلات التصوير المتوافرة، مع أن ذلك كان يلقى معارضة كبيرة من والدي (رحمه الله)، لأنه _حسب وجهة نظره_ ثمة أولويات حياتية أهم من التصوير وصرف المال على تحميض الصور".

التحول

"وكيف تحولت هواية الطفولة إلى ممارسة جدية لمهنة المتاعب؟"، ابتسم "أبو رامي" ثم أجاب: "كان التحول يحدث على نار هادئة وتحت وطأة ظروف قاسية تسبب بها الاحتلال، الذي راح يطارد إخوتي جميعًا لدورهم النضالي في الكفاح المسلح، الذي شاركت فيه وبسببه اعتقلت عام 1986م".

وما بين حرب 1967م واندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987م عاشت العائلة بين فكي الاعتقال والمطاردة، فالشقيق الأكبر "فايز" أصبح مطاردًا منذ عام 1972م، والأصغر حكم عليه بالسجن المؤبد، وأيضًا سجن الاحتلال والده، وعلى إثر ذلك قضت العائلة خمس سنوات متتالية لا يكاد يجتمع فيها شقيقان داخل البيت في المدة نفسها.

وفي السجن بدأت مراحل عملية التحول تكتمل فصولها، وعن ذلك تحدث "ضيفنا الخمسيني": "في السنة الرابعة من الاعتقال، الذي قضيت فيه ثماني سنوات من أصل 18 عامًا مدة محكوميتي؛ سمحت إدارة مصلحة السجون بإدخال أجهزة التلفاز إلى الغرف، وقتها شاهدت على محطة (mbc) تقريرًا يوثق خطف المستعربين مجموعة شبان، فتمنيت لو أني أنا الذي التقطت هذا المشهد".

وبأسلوبه السلس المثقل جوفه بكثير من الألم تابع: "من خلف قضبان الاحتلال كانت بداية المشوار وتحقيق أمنية الطفولة، فخلال مدة الاعتقال عوضت كل ما خسرت على مقاعد الدراسة، وبعد التحرر بناء على تفاهمات اتفاقية أوسلو عرض علي العمل في وظيفة حكومية، لكني رفضت العرض".

قاطعته بما كان حريًّا أن يوجه إليه في هذا السياق: "ومتى مارست الإعلام؟"، على الفور قفزت إجابته بعدما دعاني إلى شرب فنجان قهوة: "التحقت بعد التحرر ببرنامج تأهيل الأسرى الذي ضم تخصصات متعددة، وآنذاك فضلت الالتحاق ببرنامج التصوير والمونتاج التلفزيوني في شركة لينا للإنتاج الإعلامي".

في تلك الدورة التدريبية تفوق عبيد على زملائه المحررين، الأمر الذي قربه من نيل فرصة عمل في التلفاز الفلسطيني الرسمي، لولا وشاية من مسؤوله في التنظيم حالت دون حصوله على أول وظيفة رسمية له، ولكن رئيس "لينا" أعجب بأداء عبيد في التصوير، لذلك عرض عليه العمل في شركته، فوافق ضيفنا على الفور.

وتذكر عبيد تفاصيل الأيام الأولى في عمله وكأنها وليدة اللحظة، إذ قال بنبرة مفعمة بالحماسة: "كنت أقضي ساعات طويلة داخل الشركة لأتعلم على أجهزتها وأطور من قدراتي بمفردي أو بمساعدة مصور مصري، لتكون المصادفة هنا أن أول تقرير أنجزتُ تصويره كان لمصلحة محطة (mbc) التي أعجبت بعملها خلال مكوثي في السجن".

ابتسم بعد استراحة صمت وأضاف بمنتهى الفخر المتواضع: "تمكنتُ في بضع سنين من تحقيق إنجازاتٍ ميدانية، كمواكبة أحداث هبَّة النفق التي كانت أول مواجهة مع الاحتلال في عهد السلطة، وبعد ذلك بأشهر قليلة أواخر عام 1996م حصلت شركة "لينا" على توكيل رسمي للعمل لمصلحة قناة الجزيرة".

في تلك المدة كان عبيد المصور الوحيد للقناة في غزة، التي افتتحت مكتبين رسميين لها في رام الله والقدس فقط، ومع ذلك التكليف الفردي مارس ضيفنا عمله بكل عزيمة وإخلاص، ومن الدلائل على ذلك إجراؤه ثماني مقابلات شخصية على الهواء مباشرة في الأيام الأولى لاندلاع شرارة انتفاضة الأقصى عام 2000م.

شيخ المصورين

ويحتفظ بسجلٍ واسع من "الأحداث الأليمة" مع جميع المراسلين الذي عملوا لمصلحة قناة الجزيرة بعد وقبل افتتاح مكتبها الرسمي في غزة عام 2004م، بدءًا من حازم بدارو مرورًا بهبة عكيلة وصولًا إلى تامر المسحال ووائل الدحدوح، الذي أطلق عليه لقب "شيخ المصورين"، كونه من أكبر الممارسين لمهنة التصوير عمرًا على مستوى غزة، إن لم يكن على مستوى فلسطين.

وإلى المواجهة الدائمة للموت تغير مجرى حديثنا مع "شيخ المصورين"، ليحمل في طياته الأخيرة الكثير من العبر والدروس، ليبدأ برواية أولى المواقف من جنوب قطاع غزة، حيث رفح والحدث محاصرة القوات الإسرائيلية لحي تل السلطان منتصف عام 2004م.

وبعد شرود في دهاليز الماضي القريب قال: "كانت أحداثًا دامية جدًّا، عندما اقتحم الاحتلال رفح وفرض حصاره المشدد على حي تل السلطان في عملية عرفت بمجزرة "قوس قزح"، ووقتها خرج الآلاف من أبناء المدينة لفك الحصار، لكن الإرهاب الإسرائيلي كان لهم بالمرصاد".

وأكمل بنبرة تقطر حزنًا: "تابعتُ مع زميلي سمير أبو شمالة سير المسيرة خطوة بخطوة، وما إن وصلت طلائع المواطنين إلى أحد مفارق الحي حتى باغتهم الاحتلال بالقصف العشوائي والعنيف، وقتها تساقطت الجثث أمامي كأحجار الدمى، وصورَّت 4 دقائق و45 ثانية في مشهدٍ واحد، أينما وجهت عدسة الكاميرا كان هناك شهيد أو جريح".

ومن الجنوب إلى شمال سار عبيد بقطار الذكريات وصولًا إلى مخيم جباليا وما عُرف بـ"المحرقة"، وكان التاريخ يشير إلى مطلع شهر آذار (مارس) من عام 2008م.

كيف نجا من الموت؟

استكمل المصور محمود سرد الحكاية: "خرجَ من مكتب القناة طاقم عمل مكون من المراسلة هبة عكيلة والمساعد محمود عوض والسائق محمد كسكين، من أجل إعداد تقرير حي عن مجزرة جديدة، وفي أثناء تصوير الأجزاء الأخيرة من التقرير استهدفت الطائرات الحربية موقعًا جديدًا فانطلقت على الفور سيارات الإسعاف من الموقع الأول إلى الثاني".

نجح ضيفنا باستقلال إحدى سيارات الإسعاف المنطلقة كالسهم الثاقب لانتشال ضحايا المجزرة الجديدة، ولكنها لم تتحرك أمتارًا معدودة حتى دوى صوت انفجار عنيف بجوارها، فعم الدخان أرجاء المكان وتناثرت الدماء هنا وهناك على مرمى عين بقية فريق العمل.

وأمام هول المشهد وتناثر الجثث واحتراق بعضها تواصل فريق العمل مع مكتب القناة، ليخبره بنبأ فقدان الاتصال بالمصور، واحتمالية وجوده في عداد الشهداء، ولكن المساعد عوض استطاع الوصول إلى عبيد ومشاهدته وهو يصور وقائع المجزرة الثالثة، التي كان أحد ضحاياها مدة سبع دقائق قبل أن ينزاح الغبار وتتكشف الحقيقة.

ولما سألته: "كيف نجوت؟" أجابني: "في حقيقة الأمر إن القذائف أو القذيفة الأولى سقطت على بعد نحو مترين من سيارة الإسعاف التي قفزت منها بحركة لا إرادية، وبقيت هي (السيارة) منطلقة إلى هدفها، لذا اعتقد الجميع أنها احترقت وتناثرت أجزاؤها في ساحة المجزرة، وبهذا كتبَ لي عمر جديد بعدما بكى علي الزملاء في المكتب".
وخلال السنوات العشر الأخيرة أضاف عبيد إلى ذاكرته مئات الأحداث الموجعة عقب الحروب الإسرائيلية الثلاثة التي شنت على القطاع، حيث لا تكفي ساحة البوح هذه للتطرق إلى التفاصيل، وتكفي الإشارة إلى مواقف ثلاثة تبين وحدها حجم المأساة.

ارتسمت على عينيه نظرة عميقة، وكأن شريط الذكريات عرض أمامه وهو يقول: "لكَ أن تتخيل لحظة اتصال أصغر أبنائك بك في منتصف الليل وأنت في عملك، ليسألك بكل براءة: "وقتيش دورنا يا بابا؟"، يقصد: متى سنموت؟، وفي الحرب الثانية يكفي مشهد الخروج نحو أقصى شمال القطاع في ليلةٍ لا صوت يعلو فيها على أزير الطائرات وصوت القذائف والغارات".

أما الحرب الأخيرة فتذكر ساعاتٍ مريرة عايشتها العائلة خلالها عندما تناقلت وسائل الإعلام خبر استشهاد الشاب "رامي عبيد"، فظن بعض أنه ابن المصور محمود، وقد قضى نحبه في مهمة صحفية، فالابن رامي ورث مبكرًا مهنة أبيه، لكن ذلك كان مجرد تشابه أسماء، ولكن من الذي يقنع الزوجة والأم بالحقيقة، ما لم ترياه أمام أعينهما؛ فهو شريك الحياة وفلذة الكبد؟!

الخيانة

وفي هذا المقام أكد "شيخ المصورين" أنه مع الاستهداف المباشر والمتعمد للصحفيين تبقى مهمة المصور الأولى نقل الحدث لا أن يصبح الحدث نفسه، ثم شدد على أنه لا قيمة للصوت (المراسل) ما لم تكن الصورة كاملة، لذلك يحدث صراع دائم بين وسائل الإعلام في جذب الصورة الأسرع.

وللمصورين والصحفيين الجدد همس بنصيحة: "تسلح بالشجاعة والجرأة على نقل الحدث دون انحياز أو نقصان، واستعد دائمًا للتضحية من أجل نقل الحقيقة والعمل في أحلك الظروف، وقبل هذا لا تخن عدستك عندما تجبن وتدخل في معترك حسابات شخصية وسياسية غير التي تمليها عليك قوانين المهنة".

حوار "فلسطين" مع "شيخ المصورين" الذي وصف الكاميرا بأنها بمنزلة "الحفيد"، وما أغلى من الولد إلا ولد الولد، وذكر أيضًا أن بداية نهايته ستكون، إن ترك الكاميرا، تمنى في ختام حديثه أن يصور مشاهد حية داخل أزقة وشوارع غزة، تبعث الأمل والتفاؤل في نفوس المشاهدين، عوضًا عن صور الموت والقهر التي فاضت بها ذاكرة كاميراته.