كان صوت الصواريخ الإسرائيلية وهي تدوي في بعض أنحاء قطاع غزة أشبه بنباح الكلاب، والكلاب التي تنبح لا تعض، الكلاب تعقر من يفر أمامها، ولما كانت المقاومة عنيدة وصامدة بالتجارب المتكررة، فقد أفصح نباخ الصواريخ عن رغبة إسرائيل في الحفاظ على الهدوء السائد.
في المقابل، أظهرت المقاومة الفلسطينية انضباطًا عكس الدراية بالواقع، والحكمة في تقدير الموقف، فالظروف الموضوعية قد لا تكون مهيأة للبدء في جولة كسر الأيدي مع العدو الإسرائيلي، وإن كانت الظروف الذاتية للمقاومة قد انتصب عودها، وباتت قادرة على المفاجأة.
ما سبق من رأي قد يتعارض مع القائلين بأن الظروف الموضوعية باتت مغرية لإسرائيل للتخلص من عدو عنيد، ولا سيما مع وجود رئيس أمريكي صهيوني اسمه "دونالد ترمب"، وقد يقول قائل: إن الأوضاع العربية المهلهلة، وغرق الشعوب العربية في أحزانها أكبر مشجع على العدوان، وقد يظن البعض أن للسلطة الفلسطينية مصلحة في تصفية البندقية في غزة.
فلماذا لا تستثمر إسرائيل المرحلة، وتقوم بتصفية حركات المقاومة؟
تقول الأكذوبة الإعلامية: إن إسرائيل حريصة على بقاء حركة حماس مسيطرة على قطاع غزة، وذلك خشية من تنامي حركات إسلامية متطرفة، لن تقوى إسرائيل على مجابهتها، والصحيح هو: أن ما يقض مضاجع إسرائيل هي المقاومة، وأن لإسرائيل رغبة جامحة في اقتلاع المقاومة من جذورها، ولكن لا قدرة لإسرائيل التي تعمل ألف حساب لحركة حماس وأخواتها القادرات على رفع المبتدأ في جملة المقاومة ونصب الكمائن المرعبة لإسرائيل، وهذا هو الرادع الفعلي لكل تفكير بالعدوان على قطاع غزة، ولو كان للجيش الإسرائيلي القدرة لما تردد لحظة.
إن الذي يكسر عنق إسرائيل، ويحول بينها وبين الولوج إلى دهاليز غزة هو المجهول الذي يتنظر القوات الإسرائيلية، ولا سيما أن تقرير مراقب الدولة الذي لن تنشر كل تفاصيله، يقدم صورة مرعبة عن أنفاق غزة، لما يزل يحير العسكرية الإسرائيلية؛ التي أوصت بتفادي المواجهة من خلال بناء الجدار الدفاعي الذي يكلف الجيش الإسرائيلي مليار دولار أمريكي، بل وصل الفزع من أنفاق غزة إلى الحد الذي جعل اليهودي الأمريكي ديفيد تشراني ليقترح على إسرائيل إقامة قناة مائية حول قطاع غزة بعرض 200 متر وعمق 60 مترًا.
إن الذي يحول دون العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة لا يتمثل بتوازن الرعب الذي فرضته المقاومة الفلسطينية فقط، إن قوة المقاومة تكمن في قدرتها على جر عدوها إلى خندقها، وفرض استراتيجيتها في المواجهة على عدوها، وهذا ما اعترف به الجنرال الإسرائيلي غيورا أيلاند.
فلماذا أخطأ بعض الكتاب الفلسطينيين في قراءة الواقع، وراحوا يهولون من قدرات إسرائيل، ويرتعبون من غضبها، ويحذرون من حرب وشيكة على قطاع غزة؟
لقد اعتمد أولئك الكتاب في تحليلهم للأوضاع في قطاع غزة على ثلاثة تصريحات إسرائيلية:
التصريح الأول لوزير البناء الإسرائيلي "يوآف جالانت" وقد استمعت إليه مباشرة من الإذاعة العبرية، وقد تحدث عن الحرب الحتمية في الربيع القادم، وأنها حرب طاحنة ولا مناص منها.
ولكنني استمعت للوزير نفسه في اليوم التالي، وهو يكذب ما نسب إليه من أقوال عن حرب حتمية مع حماس في الربيع القادم، واكتفى بالتحذير من انفجار الأوضاع في قطاع غزة!.
التصريح الثاني كان لوزير التعليم نفتالي بينت، والذي زار الحدود مع قطاع غزة، وقال: إن الحرب القادمة على حركة حماس ستكون الأخيرة، وسيتم فيها الحسم، والنصر النهائي.
وهذا التصريح المتطرف لا ينسجم مع الحقيقة التي أعلن عنها وزير الحرب السابق موشي يعلون، حين قال: إن الوزيرين نفتالي بينت، وليبرمان، هما السبب في توريط الجيش الإسرائيلي في الحرب مع غزة سنة 2014، فإذا كان وزير الحرب السابق يعترف بأن الحرب على غزة كانت ورطة، فكيف نصدق وزير التعليم الحالي بأن له القدرة على الحسم؟
التصريح الثالث كان لوزير الحرب الحالي ليبرمان، والذي قال: في الحرب القادمة على غزة لا بد من الانتصار، ولن نكتفي باستخدام ثلث قوتنا، بل سنستخدم كل قوتنا!.
وأزعم أن هذا التصريح المتشدد يتنافى مع:
1- الحقائق التي نشرت في حينه، والتي تقول: إن مخازن الجيش الإسرائيلي قد نضبت في العدوان على غزة سنة 2014، وفي ذلك الوقت فتحت أمريكا مخازن أسلحتها الاستراتيجية أمام الجيش الإسرائيلي. فهل فرغت مخازن السلاح من ثلث القوة؟
2- تصريح ليبرمان نفسه، حين حذر قبل أيام من تفجر الأوضاع في قطاع غزة، وقال: كادت مشكلة الكهرباء في غزة أن تنفجر في وجوهنا! إنه يحذر من الانفجار!
ما سبق من اجتهاد في الرأي تدركه المقاومة الفلسطينية بشكل جيد، فرجال المقاومة لا ينامون على أذنهم، فقد سمعوا نباح الصواريخ الإسرائيلية، وراقبوا نتائج دويها على الأرض بدقة واهتمام، وهم الذين رفضوا إخلاء أي مقر من مقرات الأمن الفلسطيني، وقد حدثني أحد المسئولين، وقال: إن مقاومًا فلسطينيًا رفض أن يخلي نقطة المراقبة المواجهة لموقع الجيش الإسرائيلي شرق غزة، فأطلق الإسرائيليون القذائف عن يمينه وعن شماله، وأطلقوا القذائف من خلفه ومن أمامه، ولكنه ثبت في مكانه، ولم يجرؤ الجيش الإسرائيلي على قصفه، وتفجير نقطة المراقبة، فقيادة الجيش الإسرائيلي تدرك أن النتائج ستكون على عكس ما يتمنى الإسرائيليون.