تحرر عمر البرغوثي من جديد من سجون الاحتلال، ولا ندري كم مرة تحرّر لحبسات قطعت من عمره ما يقارب ربع قرن، ولكن لهذه المرة مذاق خاص، لهذه المرة نورها الساطع وبريقها الخاص، هذه مرة تجللها روح الانتصار، وروعة هزيمة المحتل في مواجهة أسرة فلسطينية قررت أن تطرح جوهر القضية.
عمر الآن يقول الكثير دون أن يكلف لسانه عناء الكلام؛ فأفواج المهنئين التي انهالت عليه من كل أنحاء المعمورة الفلسطينية جاءت تبايعه، جاءت وقد وعت مقولته قبل أن تصل إلى بيت البرغوثي العامر بعبق القضية على أصولها الأولى، تناهى إلى سمعها الفعل المترجم إلى القول؛ فوعت القول بإذن واعية، هناك معادلة واحدة: احتلال لا لبس فيه، وشعب يقاوم هذا الاحتلال دون أي لبس، فلا تلبسوا الأمور بمسميات أكثر أو أقل من هذا.
منذ انطلاقة عمر مع بداية شبابه يرى الثورة التي يحتضنها شعب ثائر تجمعه الثورة وتفرقه سياسة الاحتلال السايسبوكية، قاتل وقاوم وحرق شرعية الاحتلال، سجن وتحرر بصفقة تبادل صنعها الثوار، تابع الطريق ليصنع المعادلة ذاتها في بيته وبين ربعه، زرع زيتونه ورواه من عرق جبينه، تمازجت روحه بروح هذا الزيتون الذي زرع، توالت عليه ضربات الاحتلال عله يلين أو يستكين أو -على الأقل- يخفف من عنفوانه المثابر، وجاءته أوسلو تمشي على استحياء علّه يلقي السلاح ويهادن، لم تزده إلا قوة ولم تنل من عزيمته إلا شموخًا وثباتًا، أمعن الاحتلال في اعتقاله ورميه بالإداري الذي ردع كثيرين إلا قليلًا، كان عمر من القليل الذي لم يفتّ هذا الاعتقال اللئيم في عضده ولم يغير بنتًا من بنات أفكاره لا صغيرة ولا كبيرة، واجه من أراد أن يحرف البوصلة حتى من أراد أنيستريح استراحة المجاهد، بقي يردد مقولات الثورة الأولى، ورفض كل المقولات الواهية، رفض أن يتعاطى مع تداعيات من جازت عليه خدعة مرحلة الهزيمة، حارب بكل قوة مفردات الذين تداعوا إلى العجز والكسل، وتقاسم كعكة موهومة عجنت من فتات طاولة اللئام.
وخرج لهم عمر بأكثر من عمر: صالح وعاصم، قدم رجالًا من المؤمنين: للشهادة صالح (صدق ما عاهد الله عليه وقضى نحبه) ليكون سفيرًا في دار الحق، وقدم من ذهب إلى الشهادة قطرة قطرة حيث الأسر الذي تجرعه مرارًا: عاصم الذي اعتصم بحبل القضية ومدّها بمداد روحه، على الخطى ذاتها والطريق ذاتها التي أرادها المرشد الأعلى لهذه العائلة المباركة.
عاد عمر ليشع بضيائه النافذ أصول ومبادئ القضية، عاد ليضخ من نفسه الوحدوي روح الوحدة الوطنية، عاد وهو يحمل بروحه روح أخيه نائل محملة بتسع وثلاثين سنة من المواجهة الملتهبة في سجون الاحتلال، عاد وهو يحمل روح عاصم المحملة بروح البطولة والمعمدة بالفداء، جاء من أقصى السجون يسعى وروح الشهيد ترفرف على روحه.
هكذا تكون القيادة، ومنها تصنع الروح الجمعية الفلسطينية على أصولها ومبادئها الأولى قبل أن تشوبها الشوائب، رجل من هذا الطراز الفريد حق له أن يبوئه شعبه مقعد التوجيه والبوصلة، رجل كأمة وكمجلس شيوخ لشعب يريد المحافظة على هويته، حق على شعبه أن يكون مثل هذا الرجل مرجعية روحية وفكرية وسياسية وثقافية لتعيد له أصول الهوية، وليحفظه من انحراف السياسة وضياع القضية.