لم يكن في خلد أحد عندما بدأت فعاليات مسيرات العودة يوم 30/3/2018 بأنها ستكون على الصورة التي صارت عليه يوم السبت 30/3/2019، ولعل استمرار تلك الفعاليات على مدار العام وبزخم متواصل يعد شهادة ميلاد لإبداع جديد من صور النضال الفلسطيني، موجدةً لنفسها حيزًا في سجل الذكريات الخالدة للشعب الفلسطيني إلى جانب الأعمال الفدائية التي اتسمت بها المقاومة الفلسطينية في سبعينات القرن الماضي، وجنبًا إلى جنب مع ذكرى يوم الأرض والانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية، ويحقّ لها هذا الشرف، بعد أن نجحت تلك المسيرات ولمدة عام كامل من الصمود في وجه العديد من العراقيل والأراجيف، مما أكسبها مناعة ذاتية كافية لأن تستمر وبقوة لسنوات قادمة، إضافة لامتلاكها الفاعلية والحيوية الذاتية الكفيلة لتطوير أدائها وتحسين أدواتها، وبما يخدم الهدف الرئيس للمسيرات "كسر الحصار".
فلسفة الفعاليات: اعتمدت فصائل العمل الوطني في غزة برنامج المقاومة، وكانت الصواريخ مختلفة المديات السلاح المفضل في مواجهة العدوان الإسرائيلي، إلى جانب سلاح الأنفاق الاستراتيجي والذي لا تظهر فاعليته وخطورته إلا في المواجهات البرّية.
فما كان من الاحتلال إلا أن شدّد الحصار على غزة، ووصل الخناق إلى لقمة العيش والدواء، وضاقت بالناس السبل، وأراد الإسرائيليون بذلك فرض معادلة جديدة تُجبر الناس على الرضوخ لها، ومفادها أن المقاومة في غزة هي السبب الرئيس في الحصار وضيق العيش وانغلاق أفق الحياة، وأنه لا فكاك من هذا الحال إلا بعد تفكيك البنية العسكرية للفصائل، وتجريدها من كافّة أسلحتها.
وبعد مرور اثني عشر عامًا على هذا الحصار، واستمرار المقاومة بالرفض المطلق في التعاطي مع طلبات الاحتلال معتبرة بأن سلاحها خط أحمر، بدت تظهر على السطح العديد من مظاهر معاناة الناس وقسوة المعيشة البسيطة.
وكان الرأي العام الشعبي يقف مساندًا للمقاومة بأن سلاحها خط أحمر ولا يمكن الرضوخ لمعادلة الاحتلال، إلا أن بعض الجهات الفلسطينية كان لها موقفًا مغايرًا، وبذلت الجهود الكثيرة لزيادة معاناة الناس، في قناعة منها بأن الجوع والتضييق على المواطنين قد يكون دافعًا قويًا لخروج الناس ضد حكم حماس في غزة، وأنها الطريقة الوحيدة لإرجاع غزة إلى حضن الشرعية!!
فما كان من فصائل المقاومة وفي خطوة رائدة لإدارة المشهد، والتفافًا على معادلة الاحتلال، استحدثت أسلوبًا جديدًا لمواجهة الحصار؛ بهدف إرغامه على التفاوض ورفع الحصار دون المساس بسلاح المقاومة، ومن هنا، انطلقت مسيرات العودة، تزامنًا مع ذكرى يوم الأرض، واتخذت لها اسمًا وشعارًا "العودة وكسر الحصار".
وأرى أن عنوان الحالة النضالية الجديدة "مسيرات العودة وكسر الحصار" كان موفقًا للغاية، وأن شعار العودة في الفعاليات الجماهيرية الحاشدة كان لتذكير الناس والعالم بحق العودة، وهي رسالة تضمنتها كل فعالية وكل صورة وكل خبر تمّ نقله عن تلك المسيرات عبر الاعلام الذي يبدأ به كل تقرير أو مقابلة، وهو ما زاد في ترسيخ "حقّ العودة" في الذاكرة والوجدان.
كما أن "كسر الحصار" والذي لازم عنوان المسيرات إلى جانب "العودة"، إنما جاء كهدف قريب من السهل تحقيقه، ولجسر الطريق أمام السائرين خشية من الاحباط فيما لو بقيت "العودة" هي الشعار فقط.
ما الجديد في مسيرات العودة؟
اعتاد الشعب الفلسطيني في مسيرته النضالية ان يتنقّل في استخدام أدوات النضال وصوره حسبما يتناسب مع الظرف السياسي والأمني، وللأسف، نجحت ماكنة الدعاية الإسرائيلية في وصف الكثير من الأعمال الفدائية الفلسطينية بالإرهاب، وجاءت الانتفاضة الأولى كمتغير مهم في طريقة النضال الوطني ضد جيش الاحتلال من حيث البعد الجماهيري وبساطة الأدوات، ثم كانت الانتفاضة الثانية كتطوير عسكري لأدوات الانتفاضة الأولى، فبقي البعد الشعبي العام مع استخدام الأسلحة الخفيفة، وفي السنوات الأخيرة استقر العمل النضالي في غزة على استخدام العمل العسكري مع تطوير في التصنيع الذاتي، والتي اكتسبتها مقاومة غزة مع تراكم خبراتها، وأبرزها سلاح الصواريخ والأنفاق.
وأخيرًا، اتخذت المقاومة الفلسطينية من مسيرات العودة أسلوبًا جديدًا، جنبًا إلى جنب- وليس بديلًا عن- الأدوات العسكرية، وهنا يمكن أن نُجْمل أهم السمات الخاصة التي اتسمت بها مسيرات العودة في النقاط التالية:
- "السلمية الخشنة"، حيث الحشود الغفيرة وتدافعها أسبوعيًا تجاه الحدود الشرقية، وإذاعة الأغاني الوطنية وكلمات الفصائل الأسبوعية على منصة العرض الدائمة، والاطارات المشتعلة والبلالين الحارقة، والعبوات الصوتية المزعجة، وفعاليات الارباك الليلي، وما قد يُسْتحدث من أساليب، لا تُعدّ أساليب عسكرية.
- جماهيرية وتنظيمية، إذ يشارك فيها جميع الفئات من الشعب الفلسطيني، فهناك كبار السنّ إلى جانب الفتية والشباب، ويتواجد الرجال إلى جانب النساء، مع حضور لافت لعناصر فصائل المقاومة الذين لهم دور محدّد في الاشراف على الفعاليات، والمحافظة على الالتزام بتوجيهات الهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة.
- يواجه المحتشدون كل يوم جمعة قوات الاحتلال الذين يقفون على الحدود الفاصلة بين قطاع غزة، والأراضي المحتلة، ويُعدّ ذلك كسرًا للنمطية العسكرية الإسرائيلية التي اعتادت عليها من نقل المواجهات إلى أراضي العدو.
- حافظ الجانب الفلسطيني على الإمساك بزمام مبادرة إدارة الفعاليات، فهي التي تنظم الفعاليات حسبما الوقت والجهود المتاحة، ويبقى على الجانب الاسرائيلي أن يتعامل من باب الردّ فقط، وهي بالمؤكد ردّ سيتم تحديده حسبما الفعل الفلسطيني.
فوائد الفعاليات:
- من أهم فوائد مسيرات العودة، استخدامها كأداة تسخين ومواجهة مع الاحتلال لا تستدعي حربًا، فبعد أن استقرت المعادلة ما بين المقاومة والاحتلال، بأن أي تصعيد قد يصل إلى نشوب حرب مدمرة، كون الصواريخ هي سلاح المواجهة المستخدم بين الطرفين، جاءت مسيرات العودة لتُبْقي أيدي الاحتلال مكبلة عن استخدام الصواريخ والطائرات الحربية على الحشود الشعبية المسالمة.
- تعزيز ثقافة المقاومة ومشاغلة العدو، إذ باتت حالة المقاومة وفعاليات العودة حديث الشارع الفلسطيني، وتراجعت الكثير من الاهتمامات الأخرى رغم أهمية بعضها، وفي ذلك إحياء لتاريخ العمل الفدائي الذي اشتهر به الفلسطيني، وبه افتخر.
- ساعدت مسيرات العودة في التأكيد على حق العودة من جديد، بعدما بات الحديث عن بلداتنا الأصلية حلمًا يراود الناس، وذكريات تتقادم مع الزمن.
- جذبت فعاليات مسيرات العودة وسائل الاعلام، وارتاد مئات الصحفيين من كافة الثقافات مخيمات العودة الخمس، وازداد الاهتمام الإعلامي والإنساني بعد حادثتي استشهاد الصحفييْن ياسر مرتجى، وأحمد أبو حسين، وهو الأمر الذي ساعد في إعادة الاعتبار القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، وعلى وجه التحديد قضية اللاجئين وحقهم في العودة.
- على إثر الانقسام الداخلي الحاصل منذ ما يزيد عن اثني عشر سنة، ازدادت رقعة الشباب الفلسطيني غير المنتمي للفصائل، واستنكف المئات منهم عن العمل التنظيمي، وهو في ميزان المقاومة يعدّ مخسرًا، وعملت فعاليات مسيرات العودة كمحفّز ودافع وطني، يثير في الشباب العاطفة الوطنية وتشجعهم للانخراط في العمل التنظيمي وفرصة لانتساب معظمهم في فصائل المقاومة.
- نجحت مسيرات العودة من تشكيل حزام "غلاف غزة" يهاب الإسرائيليون الاقتراب منه، وفي نفس الوقت تم افشال مخططهم الذي كان يرمى إلى تشكيل حزام أمني في عمق قطاع غزة على بعد 300 متر.
نجحت غزة، كعادتها، في إدارة معركة التحرير مع الاحتلال الإسرائيلي، وما من مؤامرة تستهدف غزة، إلا وكانت فرصة في إظهار أفضل ما في غزة.