يحتاج ترامب إلى مزيد من الفهم لسياساته ودوافعها، ومن ثَم تأثيراتها على الوضع الداخلي الأميركي، والأهم على الوضع الدولي والإقليمي، ومن ضمن ذلك القضية الكبرى في الشرق الأوسط، وهي الصراع مع المشروع الصهيوني.
من الصعب اختزال ذلك كله في سطور قليلة، لكنها محاولة للاختصار وتوصيل الفكرة ما أمكن.
لا بدّ ابتداء من المرور على قضية تحقيق مولر، والنتيجة التي انتهى إليها، ممثلة في عدم توجيه إدانة لترامب، وهنا يمكن القول بكل بساطة، وكما ذكرنا ذلك مرارا من قبل إن قرار النتيجة في التقرير كان بتأثير الدولة العميقة أكثر من كونه تحقيقا مستقلا بالكامل، فقد أدركت تلك الدولة أن توجيه إدانة مباشرة لترامب ستنطوي على تداعيات كبيرة على الداخل الأميركي، وصولا إلى تأثيرات مباشرة على بنية الدولة وهيبتها، أكثر بكثير من تداعيات التعايش مع رئيس أرعن لا يدرك تعقيدات السياسة، والسبب هو أن الكتلة التي تؤيده لم تغادر موقفها، وهي التي تمثّل البنية الأساسية للدولة، ممثلة في «الواسبس»، أو البيض الأنجلوساكسون، وهي كتلة لن تسكت على إطاحة ترامب، وستثير انقسامات خطيرة في المجتمع.
هكذا اقتنعت الدولة العميقة أن التعايش معه أفضل من إطاحته، فيما يمكن لاحقا جبر المشاكل التي أثارها مع الحلفاء، بجانب مواصلة الضغط عليه لتغيير مساره في الملفات.
بالنسبة إليه لا يزال الرجل وفيا للكتلتين الأكثر تأييدا له؛ الأولى التي تمت الإشارة إليها آنفا، والتي تعنيها سياساته الداخلية، وخاصة الاقتصادية، فيما تهتم كتلة مهمة فيها، وذات التأثير الأكبر (اليمين المسيحي الإنجيلي) بقضية عقائدية تتمثل في دعم الكيان الصهيوني جريا وراء حكايات «هرمجدون» والمسيح المخلّص ونهاية الزمان. أما الكتلة الأخرى فهي اللوبي الصهيوني الذي يعلم الجميع أنه الأقدر على إثارة المتاعب للرئيس لو قرر ذلك، والأكثر قدرة على منع إطاحته.
من هنا يأتي فهم حالة الهيام بالكيان الصهيوني التي تتلبس ترامب، والتي تبدّت في الموقف من القدس واللاجئين، وفيما يرشح من تفاصيل «صفقة القرن»، وأخيرا قضية الجولان التي ترتبط بمصالح الكيان الصهيوني. والنتيجة أننا إزاء مواقف ذات بُعد مصلحي لترامب، وليست مجانية.
من الضروري التوقف برهة عند المواقف العربية الرسمية من سياسات ترامب، وآخرها الموقف من الجولان، وهي تثبت أن الوضع العربي الرسمي قد بلغ مستوى من التردي لم يعرفه منذ عقود طويلة، بدليل أن تلك المواقف لم تتجاوز التعبير عن الأسف؛ سواء في الرد على الموقف من القدس أم الموقف من الجولان، لكن ذلك لا يبدو مجديا في ضوء خلل الأولويات الذي يتلبّس المحاور الرسمية العربية الأهم.
على أن الأهم من ذلك كله يتعلق بالجانب الإيجابي لسياسات ترامب التي تدفع الكيان الصهيوني نحو مزيد من الغطرسة، ذلك أن سياسات كهذه سيكون لها تأثيرات إيجابية على مجمل الصراع، حيث ستفضح للمرة الأولى حقيقة ما يريده الصهاينة من التسوية والحلول، بعيدا عن لعبة اللف والدوران والاستدراج، التي يبدو أنها انتهت بحالة «العلو الكبير» التي تجتاح القيادة الصهيونية، والشعور بإمكانية استغلالها، بجانب تردّي الوضع العربي في تحقيق ما فشلوا في تحقيقه بعد «أوسلو»، وبعد غزو العراق.
هذه الغطرسة ستتيح إعادة الصراع إلى أبجدياته الأولى التي ضيّعها أوسلو ومخرجاته، وخاصة السلطة التابعة، والمصممة لخدمة الاحتلال.
في الجانب الأميركي، يمكن القول إن ذلك المستوى من السيطرة الصهيونية على القرار الأميركي في ظل تنافس ترامب مع الديمقراطيين على إرضاء الكيان، وكسب اللوبي الصهيوني الذي كان تاريخيا أكثر انحيازا للحزب الديمقراطي طوال مرحلة ما قبل بوش (الابن)..
والخلاصة أننا نتحدث عن «العلو الكبير» للصهاينة، وحين نتحدث عنه فليس بعده إلا التراجع، وهو تراجع سيكون حصيلة معادلة معقدة؛ من سياسات فلسطينية وعربية تخصّ طرائق التعامل مع الاحتلال، توازيه حصيلة تدافع داخلي أميركي ضد هيمنة أقلية على القرار السياسي الخارجي. وكل ذلك يدفعنا إلى الاستبشار بزمن آخر، لا سيّما أن الشعب الفلسطيني لا يزال يسجل صمودا رائعا، لا تخذله غير سياسات قيادة عاجزة تحظى بشرعية قبيلة حزبية تختزل وطنيتها في مصلحة القبيلة.