شهدت غزة خلال شهر مارس الجاري تسارعا في الأحداث وتنوعا في قوة وأثر المتغيرات السياسية، والتي يأتي معظمها في سياق التهديدات والمخاطر، وهي تهديدات حاضرة وبقوة منذ ما يزيد عن عشر سنوات مضت، ولكن الجديد هذه المرة أنها تفاعلت جميعها في وقت واحد، فظهرت غزة وكأنها على صفيح ساخن، لا تكاد أن تهدأ.
- مسيرات العودة: مع اقتراب الذكرى الأولى لمسيرات العودة اليوم السبت والتي ينخرط في فعالياتها جميع الشرائح المجتمعية، وتمتاز بأدواتها السلمية التي تزعج الاحتلال ومستوطنيه في غلاف غزة، والتي من المتوقع أن تتصاعد لتصل إلى ذروتها اليوم.
- مفاوضات التهدئة: خلال النصف الأول من مارس شهدت غزة تزايداً واضحاً في زيارات الوفود الوسيطة بين الاحتلال وفصائل المقاومة، وفي مقدمتها الوفد الأمني المصري، إضافة للوسيط الأممي نيكولاي ملادينوف، والسفير القطري م.محمد العمادي، وإجراء المزيد من المفاوضات مع الاحتلال، من أجل إنهاء الحصار المفروض على قطاع غزة منذ عام 2007، والذي من شأنه أن يخفف من الأزمة الاقتصادية الطاحنة في قطاع غزة، وكانت هناك مؤشرات تفيد بقرب عقد اتفاق تهدئة ما بين حركة حماس و(إسرائيل) وذلك قبيل الانتخابات الإسرائيلية المزمع إجراؤها في 9 أبريل القادم.
- مظاهرات احتجاجية: شهد قطاع غزة يوم الخميس 14/3 خروج مئات من المواطنين في مظاهرات تحت شعار "بدنا نعيش"، كتعبير عن الحالة المعيشية القاسية التي يعانيها سكان قطاع غزة، ولكن هذه المظاهرات حملت في طياتها شعارات سياسية ضد حركة حماس، ووقفت من خلفها الأجهزة الأمنية في سلطة رام الله، وبعد يومين من بدء المظاهرات، وعلى الرغم من انتهائها، استمرت قيادة سلطة رام الله بالتحريض لخروج المواطنين ضد حكم حركة حماس، والمطالبة بإسقاطها.
- العدوان الإسرائيلي: ويكتمل المشهد في غزة، فيما حصل في منتصف الأسبوع الماضي من تصعيد عسكري إسرائيلي لم ينتهِ بعد، ومن الممكن أن يقود إلى حرب طاحنة تقلب كل الموازين في غزة، وتبقى حسابات نتنياهو في اختيار كيفية وشكل العدوان الاسرائيلي ضد قطاع غزة تراعي محدديْن مهمين هما: فعاليات مسيرات العودة في الذكرى السنوية الأولى، وموعد الانتخابات الاسرائيلية التي باتت على الأبواب.
- المعادلات التي تحكم غزة: ما تشهده غزة بين الحين والآخر، إنما هو نتيجة ما يصدر عن عدة جهات ترى في غزة ميداناً لها، ويمكن لنا أن نجمل عمل تلك هذه الجهات على صورة معادلات تحكم سياستها كما يلي:
1. معادلة الحكومة: والتي تشرف عليها حركة حماس، فالمطلوب منها في نظر المواطنين في غزة، أن تقوم بكامل واجباتها وتقديم خدماتها مثل أي حكومة مستقرة، على الرغم من قلة الايرادات المالية، وعدم استفادتها من ضرائب تجار غزة والتي تعود عبر (اسرائيل) إلى خزينة السلطة برام الله، وعدم وجود مرجعية ناظمة تكون مسؤولة أمام الرأي العام عن إدارة العمل الحكومي بصورة علنية، بعد أن قامت حماس بحلّ اللجنة الادارية في سبتمبر 2017، وهي اللجنة التي كانت تعمل عمل المرجعية الإشرافية للوزارات والمؤسسات الحكومية، مع التذكير أن قرار الحلّ جاء بطلب من السلطة الفلسطينية في مفاوضات المصالحة التي ترعاها المخابرات المصرية، على اعتبار أن تلك اللجنة الإدارية تعمل عمل حكومة التوافق والتي كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس هو مرجعيتها.
2. معادلة المقاومة: تعتبر المقاومة الميزة التي تمتاز بها غزة، إذ تتجمع فصائل العمل الوطني في هيئة وطنية للتشاور والتنسيق، وتلتقي الأذرع العسكرية في تجمّع آخر، وهو ما بات يعرف بـ"غرفة العمليات المشتركة"، وأهم مهمة لها هو إدارة أعمال المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي، ووجودها تعبير عن حالة النضوج والتطور الحاصل في إدارة المقاومة في قطاع غزة، وتعتبر كتائب القسام أكبر الأجنحة العسكرية المتواجدة في قطاع غزة، إلى جانب الأجنحة العسكرية الأخرى والتي تُعبّر عنالتنوع والتعدد الحاصل في ميدان العمل الفصائلي، ويمكن القول إن مقاومة غزة نجحت في تثبيت ميزان الردع مقابل الاحتلال، وتعزيز معادلة القصف بالقصف، والهدوء بالهدوء، وباتت قيادات المقاومة وعناصرها على حد سواء تنشط في فعاليات التدريب والاستعداد، دون خشية من استهداف اسرائيلي مباغت كما كان الحال قبل عام 2012، وهو الأمر الذي استفادت منه المقاومة من الاستعداد والتهيئة للمعركة القادمة.
3. معادلة المواطن البسيط: يعاني المواطن في غزة من حالة الفقر والعوز، نتيجة الحصار الخانق، وضيق سبل المعيشة وقلة الوظائف، اضافة إلى عقوبات السلطة تجاه غزة، وقطع رواتب الآلاف من الموظفين، ومخصصات الأسرى وأسر الشهداء، وتخفيض رواتب الآخرين إلى النصف. وبشكل متوازٍ لتلك العقوبات، قادت الأجهزة الأمنية التابعة إلى سلطة رام الله حملات تشويه وتشهير استهدفت حركة حماس (حكومة ومقاومة)، مما جعل بعض المواطنين يرى أن حركة حماس هي العقبة التي تقف في طريق سعادته وراحته، وأنه في اللحظة التي تسقط فيها حركة حماس من غزة، فإن الحصار سينكسر والرواتب ستعود، وسيفتح باب التوظيف أمام آلاف الخريجين.
4. معادلة السلطة: تسعى السلطة لاستعادة غزة تحت ولايتها، على اعتبار أنها العنوان الرسمي للشعب الفلسطيني، وترى السلطة أن ما حدث عام 2007 في غزة من أحداث عقب فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية، هو انقلاب من حركة حماس ضد مؤسسات السلطة الرسمية، وأن استعادة غزة إلى حضن الشرعية- حسب تعبير قيادة السلطة- يجب أن يسبقه اضعاف حركة حماس، وهو الأمر الذي لن يتمّ إلا بجعل المواطنين يرون في حماس أنها العقبة أمام راحتهم ومستقبل أبنائهم، وأن ما كان يجري من مفاوضات ثنائية بين حركة فتح وحركة حماس تحت عنوان "المصالحة"، إنما هو لعقد اتفاقية اعادة غزة إلى السلطة، وليس اتفاقية تجمع طرفين وندّين لا غالب ولا مغلوب بينهما.
5. معادلة المجتمع المدني: تنشط مؤسسات المجتمع المدني في قطاع غزة بطريقة ملفتة للأنظار، وهي مؤسسات تنشط وتكبر في بيئة احتياجات الناس، ووجود الانقسام السياسي، والجمود المؤسساتي في العمل الحكومي، مما جعلها عنواناً لتقود فعاليات وبرامج من شأنها أن تسد ثغرات في حالة الفراغ الرسمي، وبادرت بعض مؤسسات المجتمع المدني في تفعيل نظام المساءلة والمحاسبة للعمل الرسمي، وبموازين عالية من الشفافية والعدالة، مما جعلها تبدو أنها دائماً تقف في صفّ المواطن ضد الحكومة، وهو الأمر الذي ضاعف من رؤية الناس بعجز الحكومة وتقصيرها أمام احتياجات الناس.
6. معادلة الاحتلال: لا يحتاج الاحتلال الاسرائيلي الكثير من الحديث حول المعادلة التي ينطلق منها تجاه قطاع غزة، فهو يسعى جاهداً لإضعاف الصوت الفلسطيني المطالب بحقوقه السياسية -المتمثل في: السلطة والمقاومة على حدٍّ سواء-، وتجريم المقاومة والصاق تهمة الارهاب بها وبكل الجهات الداعمة لها، واشغال المواطن الفلسطيني في تفاصيل حياته اليومية وسبل المعيشة. ولن تهدأ غزة إلا إذا تحققت ثلاثة شروط، هي:
1. اعتبار الحكومة في غزة هي حكومة المقاومة، وأن تقف المقاومة سنداً لها، كما وقفت الحكومة وأجهزتها الأمنية سنداً وعوناً لها، وحامية لظهرها، في الوقت نفسه أن يعاد صياغة المؤسسات الحكومية من منظور المقاومة، بعيداً عن منظور الدولة مكتملة الأركان، مع اعتماد هذه الحكومة لمبدأ الشفافية والمساءلة والعدالة أمام جهات مجتمعية وطنية.
2. تجريم كل سلوك أو تصرف فضلاً عن خطة أو مؤامرة، من شأنها إضعاف المقاومة، ويثبت بالدليل القاطع أنها جاءت بتوجيهات معادية لمشروع المقاومة، ويندرج في هذا الباب التخابر مع الاحتلال أو أي جهة أجنبية أو إقليمية، ومدّها بالمعلومات خارج الأطر الرسمية، مع الاهتمام بعدم الوصول إلى مرحلة تقديس رجال المقاومة، أو عسكرة الحياة المدنية.
3. وقوف الكل الوطني خلف هدف مرحلي واحد، ألا وهو إنهاء الحصار الخانق على قطاع غزة، ومؤشر تحقيقه السماح بإنشاء ميناء بحري ومطار، وأن ذلك حقٌّ لغزة وليس منّة من أحد.