تحاور حماس في هذه الآونة (إسرائيل) بالسلاح، أو على الأقل؛ يدخل السلاح أداة تفاوضية بين الطرفين، في وساطة مصرية تسعى لإبرام هدنة بين المقاومة في غزّة وبين (إسرائيل). دخول السلاح النوعي الذي تملكه المقاومة في غزّة؛ على خطّ المفاوضات، يعني أن المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين وصلت طريقا مسدودا، أو دون الحدّ الأدنى الذي يمكن أن تقبل به حركة حماس في قطاع غزّة.
إدخال السلاح، من جهة الشكل والمضمون، على خطّ المفاوضات، يحمل جملة من الدلالات على حقيقة الموقف في غزّة، فهو تعبير صارخ عن السير على حافة الحرب، بالرغم من أنّ أحدا لا يريد هذه الحرب، فقصف غزّة استهدف "تل أبيب"، أي عمق الكيان الإسرائيلي، في رسالة مشبّعة بالرموز، وبصاروخ يملك قوّة تدميرية ظاهرة.
لا يمكن القول والحال هذه، إلا أنّ مستوى المناورة وصلّ حدّا خطيرا، حاولت المقاومة التخفيف من حدّته بنسبة الصواريخ إلى "مصدر مجهول"، وذلك لمنح بنيامين نتنياهو سلما ينزل به عن الشجرة؛ في ردّه على صواريخ غزّة، لا سيما ودولته مقبلة على انتخابات مبكرة بعد وقت وجيز في نيسان/ أبريل القادم.
هذه الحيلة، التي تستند إلى تقدير سياسي مفاده أنّ (إسرائيل) أيضا لا تريد الحرب الآن، تبدو وكأنّها قد نجحت للمرة الثانية على التوالي، فهذه هي المرّة الثانية التي تستهدف فيها المقاومة "تل أبيب" بصواريخ في أقل من أسبوعين، ثم تنفي صلتها بتلك الصواريخ في مناورة مكشوفة، ولكنها ما زالت مفيدة في كبح الردّ الإسرائيلي، وإن كانت المناورة تنطوي على قدر من المغامرة، إذ الحرب عادة لا تصدر عن قرار عقلاني.
المناورات الأخيرة تتكثف فيها الرموز، من أداة القصف إلى الهدف، وهذا يحيل على مقاومة جريئة وجادّة وتكسر المحرمات الإسرائيلية، وتسعى لإحباط المعادلة الإسرائيلية؛ والتي تتكون من الحصار والهيمنة الأمنية الإسرائيلية المطلقة. فحصيلة المواجهات الأخيرة أن (إسرائيل) لم تعد تقصف، وتقتل، والمقاومة تمتص الضربة بالسكوت و"تفويت الفرصة على العدو". ففي الحدود المنظورة، ثمة معادلة جديدة، وهي أنّ يد (إسرائيل) الأمنية والعسكرية لم تعد مطلقة الفعل في غزّة، وأن فعلها من المحتمل جدّا أن يستوجب ردّا من غزّة، وأن غزّة نفسها قد تبادر بالمواجهة، وإن كان ذلك في سياق المناورة سابقة الذكر.
هذه معادلة جديدة غير تلك التي حاولت (إسرائيل) فرضها، وتظلّ معادلة مهمّة في الإطار الزمني الراهن، حتى ولو كان تعديلها واردا ما دام الصراع مفتوحا.
على الجانب الآخر، يعاني بنيامين نتنياهو، في حين يجمع ذخيرته الانتخابية من عطايا ترامب، ومن التطبيع العربي، وهذا تحوّل آخر، فلطالما اجتهد نتنياهو في تصوير نفسه على أنّه رجل الأمن القوي.. هذه الصورة تآكلت نسبيًّا أخيرا بفضل قطاع غزّة، بل إن المواجهة التي دارت بين المقاومة في غزّة وبين (إسرائيل) في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، على خلفية إحباط المقاومة وحدة قوات خاصّة إسرائيلية؛ تسللت إلى مدينة خانيونس.. هذه المواجهة هي التي قصمت ظهر الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، ودفعت وزير الجيش الإسرائيلي ليبرمان للاستقالة، ولتحديد موعد لانتخابات مبكّرة.
صحيح أن السياسة الإسرائيلية تجاه غزّة ما تزال متوحشة، وتعتمد الحصار المحكم للقطاع، وتستعين في ذلك بجملة عوامل أخرى غير إسرائيلية، وهي بذلك تنهك البنية الاجتماعية في غزّة، وتعمد إلى استنزاف مقدرات المقاومة، إلا أنّها تعاني في المقابل، بفضل الفاعلية العسكرية والشعبية في قطاع غزّة. بالتأكيد، لا يمكن إغفال تراجع الهيمنة الأمنية الإسرائيلية في الضفة، وتراجع فاعلية الهندسة الاجتماعية التي استهدفت الضفة في السنوات العشر الأخيرة، ولا وجود للتحدّي الإيراني في سوريا، بيد أن الفاعلية الأكثر كثافة هي في غزّة، وبالنظر إلى ذلك، فإن نتنياهو، لترميم صورة رجل الأمن القوي المتآكلة، يستعين بعطايا ترامب، والتي كان آخرها الاعتراف الأمريكي بالجولان السورية المحتلة أرضا إسرائيلية، ويستعين كذلك بالتطبيع العربي الجاري، الذي، يكثر نتنياهو، حدّ الإفراط، من الحديث عنه!
ثمّة مشهد سوريالي في كلّ ما يجري، فالشريط الساحلي الضيق المحاصر المكشوف أمنيّا وعسكريّا، والمفتقر إلى أي إسناد خلفي، أو إلى حليف استراتيجي، وحده الذي يشاغل (إسرائيل) ويدافع عن حقوق العرب والفلسطينيين، وإن كان ذلك كلّه يشير إلى اتجاهات الصراع المستقبلية.. فلم تعد (إسرائيل) مطلقة القدرة، ولم يعد المقاتل الإسرائيلي هو ذلك الذي هزم الجيوش العربية في حربي 1948 و1967، وبات واضحا أن حسم الصراع مع (إسرائيل) ليس أمرا مستعصيا، وأن بقاءها يعتمد على عوامل خارجية، أكثر منها ذاتية، كالحالة العربية التي يُعبّر عنها الآن المشهد التطبيعي، والحالة الدولية التي يعبر عنها الآن دعم ترامب المطلق لـ"إسرائيل" وقواها اليمينية.
نعم، حوار الصواريخ "مجهولة المصدر" يكشف في الوقت نفسه عن أزمة القطاع المحاصر، واستعصاء الحلول في الأفق المنظور، لكن ثمّة ما هو أكبر من ذلك خلف هذه الصورة المؤلمة.
عربي21