فلسطين أون لاين

عن الصواب والخطأ في قياس الحالة الفلسطينية إلى تجارب التحرر العالمية

المقارنات بين ظروف الكفاح الفلسطيني وثورات التحرّر الأخرى لم تبدأ مع حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزّة، بل بدأت والثورة الفلسطينية المعاصرة في خمسينيات القرن الماضي فكرة في رحم العقل الفلسطيني. وقد سبق لي الإكثار من الإشارة إلى ما قاله رائد نظريات حرب الشعب الزعيم الصيني ماوتسي تونغ لوفد من حركة فتح زاره في العام 1964: "لقد تبادلنا الحديث بحرارة، ولكنني أريد أن أقول: لقد درست قضيتكم والظروف المحيطة بها بدقة، إنها قضية صعبة تتداخل فيها المشاكل تداخل أسنان القرش. إذا تمكنتم من تفجير ثورة والاستمرار بها فإني سأكون سعيدا لدراسة قوانين جديدة لحرب شعب في ظروف لا تنطبق عليها قواعد حرب الشعب التقليدي".

لم يكن ماوتسي تونغ وحده الذي يرى أن فلسطين بيئة غير مواتية لهذا النمط الكفاحي، فحركة القوميين العرب، كانت ترى، وفي سياق السجال مع حركة فتح، أنّ نموذج التجربة الجزائرية لا يمكن استنساخه في فلسطين. صحيح أنّ حركة القوميين العرب كانت مدفوعة بالانتماء السياسي للحالة الناصرية حينها، ومن ثمّ تنتظر استكمال المشروع القومي العربي في طبعته الناصرية على طريق تحرير فلسطين، وهو ما كانت تردّ عليه حركة فتح بالقول إنّ تحرير فلسطين هو طريق الوحدة العربية، إلا أنّ الموضوعية الصرفة، وبقطع النظر عن الدوافع السياسية والأيديولوجية، تؤكّد الفوارق الموضوعية الهائلة بين الجزائر وفلسطين مساحة وعدد سكان وعدد مستعمرين وطبوغرافيا وجغرافيا سياسية وحتى من حيث النموذج الاستعماري نفسه، والنقاشات التي دارت حول النموذج الصيني أو الجزائري دارت حول النموذج الفيتنامي ليطلق الفلسطينيون على العاصمة الأردنية عمّان "هانوي العرب"، وفي وقت لاحق أطلق اللقب نفسه على بيروت.

وبالرغم من أنّ النظريات الثورية والكفاحية التي حاول الفلسطينيون أن يصوغوا نضالهم بواسطتها، والطرق التي شكّلوا فيها تصوراتهم عن بعض المحطات الكفاحية كالانتفاضة الأولى أو الثانية؛ بحاجة لمراجعة باستمرار، لأجل خطّ طريق نضالي، نظرية وممارسة، أكثر استجابة للشروط الذاتية والموضوعية في الحالة الفلسطينية، وهو ما كتبتُ فيه مرارا، (كتبتُ مثلا، قبل السابع من أكتوبر بثلاثة شهور، مادة تراجع تاريخ تلك النظريات والتصورات وصولا للزمن الراهن؛ بعنوان: في البحث عن القتال الفلسطيني: الرؤية المؤسِّسة وتكتيكات الميدان)، فإنّ ذلك لا يعني صوابية التحفّز القائم باستمرار بالرفض المطلق إزاء كلّ من يستدعي تلك التجارب التحررية العالمية، واتهام من يستدعي تلك التجارب بالغفلة عن الفوارق الموضوعية بينها وبين الحالة الفلسطينية.

لا تعني المقارنة التي قد تحصل اليوم بين تلك النماذج والحالة الفلسطينية، إمكان الاستنساخ، علاوة على المطابقة، فالاستفادة التأسيسية، أو الاستفادة بقصد الحجاج، أو في سياق السجال، قد تسعى للنظر من مكان عال على الحدث الراهن، للخروج من ضغط اللحظة القاهرة، التي يضيق فيها أفق الإنسان رغما عن كل إدراكاته الذهنية والنفسية والعصبية. هنا مثلا قد يتوخّى استدعاءُ التجارب الأخرى القولَ إنّ تلك التجارب حصّلت إنجازها وانتصارها بعد سلسلة طويلة من الإخفاقات والهزائم والأثمان الباهظة، بمعنى أنّ هناك قاسما مشتركا هو جزء من ماهية أيّ حركة تحررية، أي أنّه عنصر مشترك لا يتأثر باختلاف الظروف الموضوعية. فبقطع النظر عن الخيار الكفاحي الذي تختاره الحركة التحررية، فإنّ طول الأمد على الانكسارات ودفع الأثمان الباهظة لا بدّ منه، سواء كان الخيار عنيفا أم أقلّ عنفا، وسواء كانت الظروف الخادمة للسكان الأصليين في حركتهم التحررية أكثر أم أقل.

لا يكون التقييم والحالة هذه منحصرا فقط في الأثمان البشرية المدفوعة، بل في النتائج الكلّية للصراع، فالكفاح الفلسطيني العنيف صهر الفلسطينيين في شعب واحد، وكرّس هويتهم الوطنية، وجعل قضيتهم مفروضة على العرب والعالم، وحرم المشروع الصهيوني من الاستقرار، في حين أوصلنا مشروع التسوية إلى "صفقة القرن" ومصادرة الإمكانات النضالية من الفلسطينيين وتدمير الإجماع الفلسطيني وتفتيت الشعب الواحد، ومدّ جسور الكيان الصهيوني للمنطقة والعالم وتغطيته مشروعه الاستيطاني بغلالة مخادعة من السلام، وأخيرا كنّا، قبل السابع من أكتوبر، على أبواب طمس طويل للقضية الفلسطينية في سياق اتفاقيات التطبيع التحالفي الإسرائيلي العربي.

 

ليست القضية، إذن، ما هو أفضل؛ الخيار العنفي أم السلمي، من حيث الأمر في نفسه، ولكن ما هو الأفضل من حيث قراءة طبيعة المشروع الصهيوني، والطبيعة العنيفة لأي مشروع استعماري، والنتائج الظاهرة من أيّ خيار، وحينئذ تتحدّد الخيارات الأنسب، وعلى ضوء ذلك تجري صياغة الخيار المختار بما يناسب الشروط الخاصّة بالحالة الفلسطينية.

يقود ذلك إلى جانب آخر من قراءة التجارب الثورية العالمية في سياق فهم العنف الاستعماري، إذ ثمّة تبرئة ضمنية، من بعضهم، للاحتلال من العنف الفادح الذي أوقعه على قطاع غزّة بعد عملية "طوفان الأقصى"، وهذا هو مفهوم لوم المقاومة على خياراتها الكفاحية، إذ لا معنى للومها على خياراتها في سياق تفسير ارتفاع مستويات العنف الإسرائيلي؛ سوى القول إنّها المسؤولة عن العنف الإسرائيلي.

هذا بالضرورة لا يعني الامتناع عن مراجعة تلك الخيارات ونقدها لتطويرها أو حتى لمحاولة تخفيف العنف الإسرائيلي، وتعزيز قدرة الفلسطينيين على الصمود والنضال في ظروف أفضل، لكن ربط العنف الإسرائيلي بخيارات المقاومة ربطا ماهويّا وعضويّا، يعني أنّه من الممكن ألا يكون العنف الإسرائيلي بهذا النحو لولا خيارات المقاومة، وهو استنتاج خاطئ حتما، ليس فقط بقراءة طبائع العنف الاستعماري في التجارب العالمية، ولكن أيضا، بمراجعة التاريخ الكفاحي الفلسطيني، وهو ما يستحق مراجعة بعض الآراء النقدية التي تحمّل مستويات العنف الإسرائيلي المتصاعدة حصرا لخيارات المقاومة وتحالفاتها، وبنحو لا يخلو من غباء فادح وجهل فاضح بتاريخ القضية الفلسطينية وبطبيعة الاستعمار الصهيوني. (أحدهم يقول إنّ التحالف مع إيران ذريعة كافية لـ"إسرائيل" لزيادة العنف)!

بالتأكيد مراجعة التجارب العالمية لفهم مسارات المواجهة وتحوّلاتها بين الشعوب المستعمَرة ومستعمريها، وتحليل أنماط العنف الاستعماري، لا تعني أبدا استسهال الحديث عن الأثمان المدفوعة، بل يجب أن يتحلّى من يتناول هذه القضية بالحساسية الأخلاقية العالية إزاء ما دفعه أهلنا في قطاع غزّة من تضحيات باهظة غير مسبوقة في تاريخ الصراع مع المشروع الصهيوني، لا سيما وأنّ هذه الأثمان من حيث الحجم والمستوى تتركّز الآن داخل قطاع غزّة، وإن كان العنف الإسرائيلي يتمدّد على طول فلسطين وإلى خارجها بمستويات متباينة.

وإذا كانت التجارب لا تتطابق ولكنها تتشابه بوصفها تجارب إنسانية، ونماذج لها طبائع متداخلة، بما يحتّم دراستها والاستفادة منها واستثمارها في تكوين تصوراتنا حول خياراتنا الكفاحية، فإنّ من ينتقد أيّ استدعاء لتلك التجارب، هو نفسه يتورّط في الدعوة لاستنساخ تجارب أخرى يراها أقلّ عنفا، ومن ثمّ، بحسب ما يتوهّم، قد تستدعي ردّا استعماريّا أقلّ عنفا، وهو اعتقاد من جهة ينمّ عن تصوّر ساذج بإمكان تحييد عنف الاستعمار بحسب سلوك الشعب المستعمَر، ومن جهة أخرى يتسم بالتناقض حينما يقع في عين ما يأخذه على الآخرين، وأخيرا هو بالفعل غير مستوعب للتجربة الكفاحية الفلسطينية.