هناك مَن يتقن الدعوة والتنظير إلى الفكرة التي يؤمن بها ولكنه في معترك الواقع والولوج إلى ميدان فن الممكن والسياسة وفق تقديراتها ومآلاتها وتقدير مصالح الناس وإمكانات الوصول للأهداف وإحالة الشعار إلى حلول ونجاحات يجد نفسه في عالم آخر لا يتقن فنونه، إطلاق الشعار لا يحتاج إلا إلى مهارة لغوية سجعية وصوت رنان، بينما أحالته إلى أن يصبح واقعًا ملموسا فيحتاج إلى قيادة رشيدة حكيمة ذات خبرة غزيرة وتأهيل عالٍ، تجيد رسم الخطط والبرامج وقادرة على تسخير الإمكانات وتوظيف القدرات والمثابرة والجَلد... الخ. كيف بنا إذا كانت المبادئ المطروحة والشعارات كبيرة لأنها سماوية تريد إقامة رسالة السماء في الأرض في ظروف وملابسات قاسية وبالغة التعقيد؟؟
وإذا نظرنا إلى معادلة الدين والسياسة، فهناك من يملك ناصية العلم والفقه الديني العمي، ولكن هذا غير كافٍ، إذ لا بد من أن يكون رصيده واسعًا في فهم الواقع، وفك رموز تعقيداته والقدرة على التوصيف والتحليل والوصول إلى التشخيص الموضوعي الصحيح، ثم بعد ذلك تأتي القدرة على تفعيل النص الديني في الواقع بطريقة ناجحة وموفقة دون تمحلّ أو ليٍّ لأعناق النصوص أو غلوّ أو تفريط، وهذه لها متطلباتها، والتي أهمها أن يتولد الاجتهاد من رحم الجهاد وأن يكون صاحبه عاملًا لا متفرجًا أو مراقبًا للأحداث عن بعد، ومن هنا ذهبوا في تفسير الآية الكريمة: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين". إن من مدلول كلمة نفر أنه خرج للجهاد وتعلم فقهه على محك التجربة العملية، ومن هنا نرى كيف يُضلّل الإفتاء الرسمي في السياسة إذ يضع الحاكم بين يدي المفتي معطيات نظرية لتسوقه إلى إفتاءات تأتي على مقاسه وحسب أهوائه، الأمر يحتاج إلى أن يكون الحاكم عالمًا أو أن يكون العالم عاملًا في الشأن السياسي حتى النخاع ليكون قادرًا على الاجتهاد.
ثم يأتي بعد ذلك تراكم الخبرات والاستفادة منها ومن خبرات الآخرين والقدرة على مراجعة ما مضى تصويبا وتصحيحًا والسير قدما بكل صدق وعلم وخبرة نحو تطوير التجربة وعدم تكرار الأخطاء ومراكمة المزيد من النجاحات والإنجازات في معادلة يكون الدين فيها حاضرا بمبادئه الرشيدة ومقاصده العظيمة التي لا تحيد أبدا عن تحقيق مصالح الناس وسعادتهم (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) بشكل فعلي تزيد العمل السياسي قدرة وارتقاء وفي نفس الوقت مرونة وحصافة ودهاءً.
أعتذر على هذه المقدّمة الطويلة ولكن لا بد منها كي نرى المستوى العالي الذي حققه الشيخ في أدائه الدعوي والسياسي، فلم يقف عند دور المرشد الروحي، لقد كان الشيخ داعية ورساليًا يجيد إيصال رسالة السماء للناس بصورتها المشرقة وفي نفس الوقت يتقن فنون السياسة ويسير دروبها باحتراف وقوة وبراعة، لقد تجاوز كل ما قلناه في دهاليز هذه المعادلة الصعبة، نستطيع القول إنّ أبهى الصور وأعلاها احترافية قد تجلّت في شخصية الشيخ أحمد ياسين، إذا خاض في السياسة أصاب الدعوة واذا خاض في الدعوة أصاب السياسة، وهذا ليس من باب الاشادة والتبجيل ولكنه من باب رصد حياة الشيخ التي تجلى فيها هذا على أفضل الصور الممكنة في واقع في غاية الصعوبة والتعقيد.
ولم يقتصر الشيخ في إتقان فنون هذه المعادلة على صعيده الشخصي على نمط كاريزمي استثنائي، وإنما نجح في إحداث نقلة نوعية لحركة اشتد سوقها في عملية بناء منهجي لسنوات طويلة، ولتخرج للناس حاملة على عاتقها مقاومة أعتى قوى الشر والاحتلال الذي فرض نفسه بقوة السلاح ومؤازرة أعتى قوى العالم، هذه النقلة النوعية من واقع الدعوة للفكرة إلى مقارعة ومقاومة جيش الاحتلال قادها الشيخ، نجح في البناء في ظرف قاسٍ وصعب، لم يثنِه الاعتقال الطويل وتغييبه عن الواقع في زنازين الاحتلال. أطلق سراحه في صفقة تبادل الأسرى عام 85 ثم أعيد للاعتقال مع بداية انتفاضة الحجارة ليواصل القيادة والتواصل من عمق زنزانته، ولأنه نجح على صعيد بناء التنظيم المحكم ولم يعتمد على سلطته وقدراته الفردية فقد استمر العمل من خلال العمل الجماعي الذي نجح نجاحا باهرا في نسجه نسجا محكما، فمع غياب القائد يستمر العمل وتتولد شخصيات قيادية على ذات النسق المبدع.
أعود للمعادلة الدين والسياسة أو الدعوة الحكيمة والسياسة الرشيدة، وكان الشيخ بارعا على كل الجبهات فلم تسقط الجبهة الداخلية بانشغاله بجبهة مقاومة المحتل، ولم تكن الأولى على حساب الثانية كذلك، ربح الجبهتين في أحلك الظروف التي كانت تدفع الجبهة الداخلية نحو الاحتقان والصراع الداخلي بكل قوة، إذ تقاسم القضية مشروعان ووجد على خلفيتهما من يشعل روح التعصب وتصعيد الصراع الداخلي، مشروع قائم على التفاوض السلمي ومشروع قائم على المقاومة والسلاح، اتفاق أوسلو قسم ظهر القضية وشرخ الصف الفلسطيني وكان بمثابة قارب النجاة للبعض ونكبة جديدة للبعض الآخر، واحتدم الصراع إلا أن وجود الشيخ كان بمثابة صمام الأمان، إذ نسج مع الرئيس الراحل ياسر عرفات معادلة على الأقل تقي الفلسطينيين من الاقتتال وتبقي الأمر في دائرة الاجتهاد السياسي والصراع مع المحتل، وكأن الشيخ قد رأى ببصيرته أن اتفاق أوسلو يحمل فشله بداخله، وكان يعرف تمام المعرفة أن صلف المحتل مهما خفّضنا سقفنا فلن يرضيه ذلك، وسيمنع الفلسطيني من أدنى حقوقه ولو كانت نقيرًا كما ورد في الآية الكريمة: (أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرًا)، وكان له من الاجتهاد والتصريحات التي تناور في مجال القبول المرحلي بالانسحاب الإسرائيلي من المناطق التي احتلت عام 67، وهو يعلم (كما كان يعلم عرفات أيضًا) أن هذا مستحيل على العقل الإسرائيلي لأن به فناء الفكرة الصهيونية التي بنوها على ادعائهم حقهم في فلسطين مبنيّ على أراضي ما يعرف عندهم "يهودا والسامرة" وهي الضفة، فإذا انسحبوا منها فلا معنى لمشروعهم التلمودي على الساحل الفلسطيني. ولكنها المناورة السياسية في وقتها ومكانها الصحيحين، وهذه من الأمثلة التي تجلّى فيها الشيخ الداعية بعلمه الديني وقدرته السياسية العالية على المناورة الفذّة.
وكان للشيخ أن ترك لاتفاق أوسلو أن يموت على راحته دون أن يكون سببا لحرب داخلية، لقد حافظ بامتياز على أن تبقى البوصلة بوجهتها الدائمة نحو الصراع مع المحتل، ولم يكن هذا سهلا على قلبه والآلاف من عناصر وقيادات حركته يعتقلون في السجون الفلسطينية، يشبحون ويعذبون والشيخ متمسك بـ "صبرا آل ياسر".
ولقد تجلى الشيخ بأعلى الكرامات الربانية عندما أُطلق سراحه من حيث لا يحتسب أحد، لم يكن يتوقع أحد أن يفرج عن الشيخ في إفراجات التسوية ولم يكن هناك في الأفق تبادل أسرى، أذكر ذلك اليوم عندما أفقنا صباحا في سجن عسقلان والأفق مغلق في وجوهنا وإذ بالأخبار تصدح بخبر محاولة اغتيال خالد مشعل ثم تتوالى بسرعة فاقت قدراتنا على التحليل بتبادل سريع يفضي بالإفراج عن الشيخ من سجونهم، يا لهول الخبر الذي يفوح شذاه بكرامة خص الله بها الشيخ، وكانت للشيخ مع نشوة التحرر من السجن واستقبال الجماهير الفلسطينية له وفتح أبواب دول كثيرة له من العالم العربي والإسلامي، فرصة قلب الطاولة على فريق أوسلو، إلا أنه بقي على نفسه الطويل وقدرته العالية على الجمع بين المتناقضات المتنافرة ليجعلها ممكنة طيعة في خدمة مشروعه الكبير، وهو الاستمرار في بناء مقاومة تستعصي على الاحتلال وتكون شوكة دائمة إلى أن تتوفر مقومات المعركة الشاملة والنصر المبين.
إذًا هو شيخ السياسة الذي جمع ذلك مع شيخ الدعوة ليستمر في خط مشروع المقاومة التي أراد لها أن تنتصر، لقد كان من السهل عليه أن ينتقم من المحتل دفعة واحدة وينتهي مشروعه سريعا أو أن ينزلق إلى حرب أهلية تنهي مشروع القضية الفلسطينية برمته، ولكنه أراد أن ينتصر، الفرد يستطيع أن يغامر ولكن من يملك الرؤية الجماعية هذه والذي يحمل هذا المشروع العظيم في قلبه العظيم فإنه لا يحتمل المغامرة الخاسرة.. الشيخ بعلمه الواسع في الدين والسياسة يعرف حق المعرفة طريق الانتصار لذلك فإن رؤيته الثاقبة والتي ترجمها إلى أهداف ممكنة ومشروع قوي دائم العطاء والتقدم إلى الأمام، هذه الرؤية لا تريد شيئا سوى الانتصار، لا تريد سوى دحر الاحتلال، هذه هي الجبهة الأساس وسواها من الجبهات خاصة الجبهة الداخلية يجب أن تصبّ جهدها باتجاه واحد هو جبهة الصراع مع المحتل.
لذلك فإننا إذا أردنا أن نستفيد من ذكراه ومن روحه التي ما زالت تسري في أرواحنا فلنحافظ على هذه المعادلة، لنتقن التعامل الصحيح مع الدين والذي حتمًا يصب في صالح السياسة التي تنتصر، ولنتقن فن السياسة الرشيدة وتوظيف الممكن لأنه حتما ينسجم مع مقاصد الدين.. إننا بذلك نسير على ذاك النهج القويم وإننا بذلك نسير قدمًا نحو تحقيق النصر المبين بإذن الله دون أن تتعرقب أقدامنا على عوائق الطريق وننشغل في صراعات جانبيّة لا تصب إلا في صالح هذا المحتل الذي لا يرى الفلسطيني الجيّد إلا الفلسطيني الميت.