بقيت عربة المقعد فادي أبو صلاح شاهدة على جريمة جنود الاحتلال الإسرائيلي بحقه، بعدما استهدفوه برصاصة حية وارتقى شهيدًا.
العربة التي كان يستخدمها أبو صلاح لتسهيل حركته ورثها أطفاله عنه، إذ ينقلهم عمهم هاني بها، من منزلهم إلى منزل جدتهم انتصار.
وعاش فادي بنصف جسد منذ أن فقد طرفيه السفليين إثر إصابته في 14 أيار (مايو) 2008م، بصاروخ أطلقته طائرة حربية بجوار منزله في بلدة عبسان شرقي محافظة خان يونس، جنوبي قطاع غزة.
واستشهد في التاريخ ذاته بعد 10 سنوات، عندما اغتالته رصاصة قناص إسرائيلي في صدره، في أثناء مشاركته في مسيرة العودة الكبرى وكسر الحصار السلمية شرقي خان يونس.
عربته حمراء اللون، وعلم فلسطين الذي كان معلقًا عليها، وفريق كرة القدم الذي كان يقوده، والجوائز التي حظي بها الفريق، والأطراف الصناعية الخاصة به، ومقتنيات أخرى، كلها بقيت تُذَكِّر ذويه وأبناء بلدته بأصداء الجريمة.
والحديث هنا عن جريمة ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق شاب فلسطيني مقعد، يتحرك بنصف جسد، لا لشيء إلا أنه كان يطالب بحقه في العودة إلى أرضه المحتلة التي طردت العصابات الصهيونية أجداده منها سنة 1948م.
إنها مدينة يافا التي طالما تغنى باسمها أمام والدته، ودغدغ شعورها بجمالها، واشتاق إلى رؤية معالمها والعودة إليها، حتى إنه داعب مسامع والدته قبل دقائق من استشهاده باسمها، وقال لها: "ألا تريدين العودة إلى يافا؟، اشتقت إلى رؤية بلدي ومنزلي هناك".
هاني شقيق الشهيد لا يزال يذكر كيف نجا فادي بصعوبة عند إصابته بصاروخ من طائرة حربية سنة 2008م، وكانت سنه آنذاك 19 عامًا.
يقول لصحيفة "فلسطين": "وقع حادث سير في الطريق لسيارة الإسعاف التي نقلته، وبعد وصوله إلى مستشفى ناصر ظن الجميع أنه فقد أنفاسه فوضعوه في ثلاجة الموتى".
ويتابع: "شاءت الأقدار بعد تصميم صديقه الشهيد ياسر أبو طير نقله من ثلاجة الموتى إلى غرفة العمليات، وهناك صدم الجميع بعودة الأنفاس إليه من جديد".
ويلفت إلى أنه مكث للعلاج مدة أربعة أشهر في ليبيا، ثم عاد إلى غزة في 2010م، وقرر تكوين أسرة، ومتابعة حياته غير يائس، فتزوج وأنجب توأمين ياسر وزياد (يبلغان من العمر الآن ثمانية أعوام)، ثم محمد (6 أعوم)، ثم هيلين (5 أعوام)، ثم ليان (عامان).
ويشير هاني إلى أن شقيقه فادي عاش حياة صعبة، بدأها بالسكن في منزل مؤجر، ثم بنى منزلًا في 2013م يوائم حركته ويريح نصف جسده فيه، سكنه عام 2014م، إلى أن استشهد.
"هل يكفي الوقود؟"
ويذكر أنه كان يخطط لاشتراء سيارة توائم حركته بعد سداد ديون بناء المنزل، بدلًا من العربة التي أصابتها أعطال كثيرة، وكان يصلحها بنفسه، قائلًا: "لم يكن اتكاليًّا، بل كان يعيش بهمة رجل كامل الجسد، وطموحات كبيرة".
ويتابع: "كان يحب البرمجيات ويتعامل بحرفية مع برامج الحاسوب، ويحب كرة القدم ويمارسها، وأسس فريق شهداء عبسان، الذي يحمل اسمه الآن".
وعلاوة على مشاركة المقعد فادي الدائمة في فعاليات مسيرة العودة، وتخصيص خيمة شرق بلدة خزاعة لعائلته، يوضح هاني أن شقيقه كان يحلم بالعودة إلى يافا، حتى إنه مازح صاحب محطة البترول في طريقه إلى المخيم يوم استشهاده، عندما ملأ خزان وقود عربته، وقال له: "هل تكفيني هذه الكمية للعودة إلى يافا؟!".
أما انتصار أبو صلاح (47 عامًا) والدة الشهيد فادي فهي باقية على عهد نجلها بالمشاركة في فعاليات مسيرة العودة دائمًا، وتؤمن بأنه لابد من يوم تعود فيه مع أبنائها وأحفادها إلى يافا.
انتصار تؤكد بصوت الواثقين أن حق العودة مقدس، قائلة لصحيفة "فلسطين": "أشارك مع عائلتي في فعاليات العودة وأصطحب معي أبناء فادي، وسنظل نطالب بحقنا، مهما كلف الثمن".
وتسرد أجمل ذكرياتها مع نجلها المقعد فادي، قائلة: "كنت أتمنى عمرة إلى بيت الله الحرام، ففاجأني فادي ذات ليلة عام 2011م بأننا سنسافر في اليوم التالي لأداء مناسك العمرة".
وتتابع: "قضيت معه أجمل الأوقات في بلاد الحرمين، ووعدني بأن يحججني معه، وبعد عودتنا أدرج أسماءنا ضمن كشوفات الحجيج المنتظرة، لكنه رحل، وها أنا أنتظر".
وبعد صمت هنيهة تستدرك: "كلما ذهبت إلى مكان مع أطفال فادي أخبروني أن والدهم زار هذا المكان، وقضى معهم أجمل الأوقات، حتى إنهم يعرفون أصدقاءه"، مشيرة إلى أن فادي كان يحب أطفاله، ويحلم بتربيتهم وتعليمهم ورؤيتهم في مراتب عليا.
وتتوجه انتصار بسؤال لحفيديها زياد وياسر: "ماذا ستصبحان في المستقبل؟"، فأجاب زياد بأنه يحلم بأن يصبح طبيبًا يعالج المرضى والمصابين، أما ياسر فيريد أن يصبح مهندسًا يحمل اسم والده.
وعن قتل جنود الاحتلال الإسرائيلي نجلها المقعد فادي تقول: "هؤلاء مجرمون جبناء، ولم يعجبهم منظر فادي وهو يقدم الطعام والشراب للمتظاهرين السلميين على عربته الصغيرة".
وتوضح الوالدة أنه كان لحظة إصابته جالسًا على عربته يصلي بعيدًا عن السياج الفاصل، ولم يشكل أي خطر على جنود الاحتلال، مطالبة المجتمع الدولي بمحاسبة الاحتلال على جرائمه بحق الأطفال والمقعدين والعزل.
وتخاطب العالم بقولها: "يكفيكم سكوتًا؛ فالاحتلال لا يرحم مقعدًا، ولا طفلًا ولا امرأة، ولا صغيرًا ولا كبيرًا".
وبات أبو صلاح أيقونة من أيقونات مسيرة العودة، التي انطلقت في 30 مارس (آذار) 2018م، تزامنًا مع الذكرى الـ42 ليوم الأرض.
وأدى انتهاج الاحتلال الإسرائيلي العنف بحق المشاركين في المسيرة السلمية إلى استشهاد وإصابة الآلاف، منهم مسعفون، وصحفيون، وأطفال، وذوو احتياجات خاصة.