فلسطين أون لاين

رحلة الموت من غزة إلى بلجيكا.. "حلم الحياة في أوروبا تحول إلى كابوس"

...
صورة خاصة لمسار الطريق من غزة مرورا بدول شمال أفريقيا وصولا إلى بلجيكا
تحقيق استقصائي/ يحيى اليعقوبي:

"فلسطين" ترصد مراحل السفر إلى المجهول.. من موريتانيا ومالي والجزائر وصولًا إلى "القارة العجوز"

الحلقة الأولى

المهربون يستنزفون أموال المهاجرين و«التسعيرة» 7 آلاف دولار من كل شخص.. واللصوص وقطاع الطرق يهددون «الهاربين من جحيم الفقر»

العصابات وضعوا كمائن وحواجز جديدة طوال الطريق نتيجة زيادة أعداد المهاجرين لاستغلالهم «علاء» هاجمه ملثمون أفارقة يحملون رشاشات وسكاكين وسط الصحراء وسرقوا أموالهم وهواتفهم.. والشاب الفلسطيني: أجبرونا على خلع ملابسنا ليتأكدوا أننا لم نعد نمتلك شيئاً له قيمة

عائلة «مسمح» وصلت إلى بروكسل بعد 8 أشهر من العذاب.. تعرضت للنصب والعنف من عصابات تهريب البشر داخل الصحراء الكبرى

وعلى أبواب «مليلة» مهاجر: عشنا معاناة مرة وشاهدنا الموت بأعيننا وسرنا بالأيام في لهيب الصحاري مع أطفالنا والماء كان يغلي من شدة الحرارة.. وندمت بعد وصولي إلى الأراضي البلجيكي

«علي باع أرضه» بحثاً عن حلم السفر وبعد نفاد أمواله تواصل مع أهله وطلب نقوداً للمهربين.. والطعام فسد منه بسبب شدة الحر ونام يومين في الطرقات

20 مهاجراً معظمهم من قطاع غزة يركبون سيارتي دفع رباعي تتبعان مجموعة من المهربين أوشكت على تجاوز حدود دولة مالي غربي إفريقيا. الليل أرخى ظلمته، وخيم السكون على المكان، فظن الجميع أنه وقت الراحة من عناء سفر طويل، ولم يدر بخلدهم أن هناك عاصفة ستداهمهم، ففجأة خرجت ثلاثة جيبات تحمل أشخاصًا ملثمين من أصحاب البشرة السمراء يحملون أسلحة ورشاشات وسكاكين حاصروا المجموعة، حينها أدرك الجميع أن المهربين غدروا بهم وأوقعوهم في كمين لعصابات مالي.

أنزل أفراد العصابة أحد المهاجرين جاثياً على ركبتيه وضربوه، وطلبوا من الجميع خلع ثيابهم وإخراج ما بحوزتهم من أموال وهواتف، حتى الملابس الداخلية لم تسلم من تفتيش العصابات للتأكد أنهم صادروا كل الأموال، وضعوا سكيناً على رقبة أحد الشباب فسالت بعض الدماء، أعطاهم كل ما يملك، وأحدهم شق ملابس سيدة فلسطينية لانتزاع الأموال منها، وخلال أربع دقائق فقط صادر أفراد العصابة من المجموعة المهاجرة (34) ألف دولار، وكل ما يحملونه من هواتف، ليتحول حلم الوصول إلى بلجيكا انطلاقًا من مصر ودول إفريقية عدة إلى "كابوس".

صحيفة "فلسطين" تكشف في هذا التحقيق بالتعاون مع صحيفة "الوطن" المصرية، خط سير يسلكه المهاجرون من قطاع غزة إلى أوروبا عبر أدغال وصحاري إفريقيا، شمل 8 دول مروراً بالعديد من المناطق الخطيرة، بما فيها صحارٍ وغابات، تعج بعصابات الهجرة وقطاع الطرق.


الشاب علاء عوض خلال رحلته في مالي


يقول "علاء" إن رحلته بدأت بالانتقال إلى مصر رسميا، وبعدها إلى موريتانيا -التي لا تضع شروطاً لانتقال الفلسطينيين إليها- بالطائرة، ومن هناك بدأ رحلة غير شرعية من غابات موريتانيا إلى صحراء مالي، ثم الجزائر والمغرب مروراً بإسبانيا وفرنسا، للوصول إلى المحطة الأخيرة والمستهدفة من معظم المهاجرين وهي "بلجيكا"، لسهولة إجراءات اللجوء وسرعتها، كما يشاع، ولكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن.

ويشير "علاء" وهو شاب عشريني تتبع فريق التحقيق مسار رحلته منذ انطلاقها في سبتمبر 2018، إلى أنه لم يكن يملك سوى (1000) دولار وهاتف لحظة الهجموم عليهم من العصابات، لكن رحلته إلى المجهول بدأت قبل عام ونصف العام عندما تعرض لحادث دهس في غزة، قرر بعده السفر إلى مصر لاستكمال العلاج، وهناك علم من فلسطينيين يقيمون في مصر عن الهجرة إلى بلجيكا عبر موريتانيا، ليتخذ قراره بـ"المغامرة" سعيًا لاستكمال العلاج في أوروبا.

غادر علاء القاهرة إلى موريتانيا لقاء (800) دولار، وهناك استقبله والمجموعة التي ترافقه مهرب موريتاني مكثوا عنده لأيام، حيث كان يجمع المهاجرين ويخرجهم على دفعات كل خمسة أيام بواسطة ثلاث مركبات دفع رباعي، تحمل كل واحدة (10) أشخاص أو أقل إلى صحراء مالي، وهناك سطت عليهم عصابة صادرت ما يملكون، ليبقى والمجموعة التي ترافقه أمام خيارين: إما العودة إلى غزة أو إكمال الطريق، لكنهم وجدوا أنفسهم أمام مشكلة أكبر بعد أن صاروا في الصحراء بلا طعام ولا مال ولا سيارة تقلهم بعدما تركهم المهربون في الأدغال.

أحد المهربين في مالي

احتجاز ثلاثة أشهر


"إيش جايبكم هان؟.. أنتم في أخطر منطقة"، السؤال الذي وجهه إليهم أحد ضباط الجيش الجزائري بعدما عثروا عليهم في الصحراء، ليحتجزهم الجيش ليوم في نقطة عسكرية على الحدود الجزائرية المالية، وبعدها سلمهم للشرطة الجزائرية التي أحالتهم لمحكمة قضت باحتجازهم ثلاثة أشهر في مخيم لتجميع اللاجئين بمدينة "تمنراست"، وبعد مناشدات اللاجئين المحتجزين، قرر البعض العودة لغزة، والبعض الآخر اختار استكمال طريق الهجرة.

وبعد مضي الأشهر الثلاثة قررت الجزائر ترحيل علاء ونحو (140) مهاجرا من اليمن وغزة وسوريا، إلى حدود النيجر، وهنا ارتعد علاء ومن معه لما سمعوه سابقًا عن خطورة حدود النيجر، إذ إن فرص تعرضهم للقتل على يد العصابات كبيرة.

انطلقت حافلة الجيش، وخلال الطريق توقفت في الصحراء نزولًا عند طلب بعض المهاجرين لقضاء حاجتهم، وما كانت تلك سوى حيلة للهرب ... انزوى علاء من معه في الصحراء حتى بزوغ الفجر، ثم ساروا مشياً ساعات عدة، صادفتهم حافلة جزائرية، وركبوا فيها، تبرع أحد الجزائريين – كان علاء قد تعرف عليه سابقا – بمبلغ من المال، فدفع علاء (1400) دولار لمهرب ليدخلهم الحدود المغربية ليكملوا السير بعدها 7 ساعات أخرى.

خشي علاء أن يكون ذلك فخًا جديدًا، حينما وجدوا مهربًا آخر بانتظارهم طلب من كل مهاجر (100) دولار ليوصله إلى مدينة "مليلة" التي تحتلها إسبانيا، ولا يسمح بالدخول من البوابة سوى لسكان المدينة. الرحلة أوشكت على الانتهاء، يضيف علاء: "دفعت (600) يورو، وأعطيتها للمهرب ودخلت من البوابة، وبعدها مكثت (26) يومًا في المخيم الإسباني، ثم انتقلنا إلى مدريد بإسبانيا، وهناك مكثنا أياما عدة، ثم سافرت إلى فرنسا، ودخلت بلجيكا وسلمت نفسي لإدارة شئون المهاجرين واللاجئين.. بعدما دفعت نحو (7500) دولار تكلفة مغامرة الهجرة".

مدينة مغنية الجزائرية

المسار البحري

في بلجيكا التقى علاء بصديقه غازي قويدر، وهو من قطاع غزة، الذي كان قد سلك طريق موريتانيا البحري عبر المحيط الأطلسي، مقابل (2200) دولار دفعها للمهرب.

ويوضح غازي أنه ركب البحر على قارب قديم برفقة 15 شخصًا، مضطرًا، بعد علمه باحتجاز صديقه علاء ثلاثة أشهر، وإدراكه أن نسبة النجاة عبر الأطلسي لا تتجاوز 50%، مشيرًا إلى أن القارب أبحر مدة يومين حتى وصلوا إلى مدينة الرباط المغربية، حيث ينطلق المهاجرون برًا.

"علي" شاب غزاوي في مقتبل العقد الثالث، باع قطعة من أرضه لتدبير تكاليف السفر إلى بلجيكا عن طريق موريتانيا، وعن ذلك يقول: "دفعت (1700) دولار كي أخرج ضمن كشوفات تنسيقات المسافرين عبر معبر رفح في 3 أكتوبر/ تشرين أول 2018، لكنني بقيت يومين بالمعبر وتوجهت من مطار القاهرة إلى موريتانيا برفقة (50) شخصا".

عندما أشارت عقارب الساعة إلى الواحدة ظهراً يوم 14 من أكتوبر/ تشرين الأول انطلقت الرحلة من موريتانيا برفقة (12) مهاجرا، بعدما دفع كل واحد منهم (1300) دولار.

بعد يومين من السير والتعب وتعطل الحافلة وصلوا إلى حدود موريتانيا، وهناك تسلمهم مهرب آخر دفعوا له (100) دولار، وفي الليل دخلوا الصحراء، حيث كان الخوف يدب في قلوبهم كلما مرت ليلة من الليالي الأربع التي قضوها في الصحراء.

ويشير إلى أن طعامهم فسد بسبب ارتفاع درجات الحرارة في النهار، وأن المهرب رمى بهم عند حدود الجزائر، مدعيًا أن هناك سيارة أخرى ستنقلهم، "انتظرنا ساعات عدة ولم تأتِ، فعرفنا أنه خدعنا (...) مشينا (12) ساعة حتى وصلنا مدينة تمنراست الجزائرية. كنا نسمع أصوات الاشتباكات بين المهربين؛ اختبأنا وراء جبل لساعات، ثم ركضنا خوفاً من أن يرونا ويقتلونا".

وصل "علي" مدينة تلمسان (شمال غرب الجزائر) ثم مدينة مغنية، ودفع (1300) دولار لمهرب آخر، وانتقل لمدينة وجدة المغربية، وقبل الدخول لبوابة "مليلة"، سلبه لصوص، تحت التهديد، (500) دولار وهاتفه، وهو كل ما تبقى معه، ما اضطره إلى النوم يومين في الطرقات بلا مال أو طعام، حتى أرسل إليه والده من غزة ثمن تذكرة الدخول إلى المدينة الإسبانية، في رحلة هجرة كلفته (7) آلاف دولار.

ندم بعد مغامرة

وفي قصة أخرى، وتحت وطأة الحصار الذي يفرضه الاحتلال على قطاع غزة منذ 13 عاماً، وشبح الحروب العدوانية التي لا تغيب عن الذاكرة، غامر معتصم مسمح (21 عاما) بحياته للوصول إلى بلجيكا، برفقة أخته التي تكبره وطفليها وزوجها بحثًا عن حياة أخرى بعيداً عن أمل يكاد يكون معدمًا في ظل الوضع الاقتصادي السيئ.

معتصم مسمح

ومن غزة إلى القاهرة ثم إلى موريتانيا التي اجتازوا غاباتها في ثلاثة أيام، دخلوا بعدها صحراء مالي برفقة مهاجرين يمنيين، حتى وصلوا حدود الجزائر، بواسطة "حافلة صغيرة".

وفي منطقة "مغنية" الجزائرية مكث مسمح حيث التقى بمهرب أمضوا عنده أسبوعا، الذي سلمهم لمهرب آخر "نصب علينا، إذ أخذ الأموال دون أن يساعدنا، فاضطررنا للتواصل مرة أخرى مع المهرب الأول والدفع له لينقلنا إلى الحدود المغربية، في رحلة سير برفقة الأطفال استمرت 8 ساعات".

وهناك وجدوا أنفسهم في منطقة "وجدة" الحدودية بين الجزائر والمغرب، واستقلوا سيارة إلى منطقة "الناظور" الواقعة على الساحل المغربي، ومنها إلى مليلة، ثم إلى مدينة "بيون" الفرنسية الحدودية -البوابة الجديدة لعبور المهاجرين المقبلين من المغرب- التي لم يكملوا فيها 24 ساعة حتى انتقلوا إلى "لوكسمبرج" ومنها إلى بلجيكا المحطة الأخيرة التي سعوا للوصول إليها منذ بداية الرحلة قبل 8 أشهر.

وعن تلك التجربة، يقول مسمح: "ندمان، نفسي أرجع غزة تاني"، لافتًا إلى أنه توقع الحصول على حياة كريمة "لكن الوضع مختلف تمامًا، فلم أجد فرصة عمل أسدد بها ما اقترضته من مال لأجل هذه الرحلة الصعبة، ولم أجد الحرية التي كنت أحلم بها في القارة العجوز".