بعد الحرب الأهلية في لبنان أصبح مصطلح اللبننة دالا على بشاعة هذه الحرب، ثماني سنوات و"انشراح" تزغرد فرحة مسرورة بما يجري في لبنان لأنه حسب ادعائها أن "اللي راح أحسن من اللي جاي". وزغردت ثماني سنوات أخريات في حرب ضروس بين أعظم دولتين في المنطقة إيران والعراق. وزغردت في حربي الخليج الأولى والثانية عندما انشغل العرب جميعا بتحرير الكويت من جارتها العراق، وزغردت كثيرا وطويلا لما سمي الربيع العربي الذي اختتم أخيرا بما جرى في سوريا!!
بموضوعية مجردة من عواطفي ما استطعت لذلك سبيلا .. وبنظرة تأخذ صورة شاملة للمشهد السياسي في المنطقة كنا نسأل بداية عما جرى في سوريا: إلى أين سوريا ذاهبة؟ لا بد من الوقوف عند هذا السؤال: ماذا يريدون من سوريا؟ أقصد شياطين المنطقة. وواضح أنه لدور سوريا بما حققت المقاومة اللبنانية من نصر على الاحتلال من خلال ما وفرته من دعم وخط إمداد مباشر، الذي أدى إلى هزيمة وخروج الاحتلال من لبنان وتوّج ذلك أيضا بهزيمته ورد عدوانه الشنيع عام 2006، لا يشك أحد أن هذا جعل من تدمير سوريا هدفا إستراتيجيا وأن شطب الدور السوري من معادلة المقاومة في المنطقة فرصة جاءتهم على طبق من ذهب.
وواضح أن شياطين المنطقة الذين فعلوا ما فعلوا في سوريا هم المحور الأمريكي والاحتلال ومن يدور في فلكهم من دول عربية لاعبة في ملفات المنطقة - الكل يعرفها-. مع بداية اللعبة في سوريا كنا نقف أمام مسارين: مسار محق للشعب السوري يطالب بالتصحيح والإصلاح، ومسار آخر يريد أن يمتطي هذا ويذهب بعيدا نحو الحرب والتدمير على قاعدة: "عليّ وعلى أعدائي" وللأسف حط الشياطين كل أثقالهم وأوزارهم اللعينة في سوريا بالمال والسلاح والإعلام المسموم وجرت الأمور بالاتجاه الثاني الذي دمر سوريا وأشعل حروبا متعددة الأطراف والأجندات فعلت كل شيء في سوريا إلا الاصلاح والتصويب الهدف الأساس للحراك وهو في براءته وقبل أن تمتطيه شياطين المنطقة التي لا تريد لسوريا إلا الشر والدمار.
والآن لنا أن نسأل: ماذا تريد شياطين المنطقة من غزة؟ نفس السؤال الذي سأله كل من لديه حكمة سياسية وينظر في مآلات الأمور والنتائج المرجوة وإمكانية تحقيقها وفق ظروف المنطقة ومتطلباتها وضروراتها، وبعد ما حققت غزة على أقل ما يقال فيها إنها شوكة في حلق الاحتلال وقد حققت له خيارات صعبة وأصبحت معقلا من معاقل المقاومة الشرسة في المنطقة وأصبحت مصدر قلق دائم للاحتلال، ومن أمنياته أن يتخلص من هذا الرمح الموجع في خاصرته الجنوبية ليتفرغ لمحور المقاومة الشمالي بكامل قوته وعتاده. ولنا أن نصل إلى خلاصة مفادها أن خلاص الاحتلال من هذا الأرق الذي تحدثه له غزة هدف من أهدافه أو أن يُصدّر المعركة لتصبح معركة داخلية تكفيه شر القتال والمواجهة، وأن يجد معادلة الاحتواء المزدوج لكل أعدائه داخل أسوار غزة وبعيدا عنه هو أقصى ما يتمنى كما أشعل شياطين المنطقة حربا بين العراق وإيران في حرب دامت ثماني سنوات (من 1980 إلى 1988) كفت الاحتلال وشياطين المنطقة شر الدولتين ثماني سنوات، وما تلاها من سنوات إعادة البناء الذي دمرته الحرب وزغردي يا "انشراح".
من الواضح أن مجريات الأمور في سوريا بحسن نية أو سوء نية قد انجرتّ إلى حيث يريد شياطين المنطقة، وهنا لا بد من الاستفادة من هذه التجربة التي لم تجف دماؤها بعد، وما احتملته سوريا لا تحتمله غزة. دماء الفلسطيني في غزة غالية ثمينة كما هي دماء السوري والعربي، لماذا نترك لشياطين المنطقة أن يسفكوا هذه الدماء وبأيدينا نحن؟
وحول مسار التصحيح وتصويب الأوضاع المعيشية لأهلنا هناك لا ينبغي إلا أن تفتح قنوات الحوار بعيدا عن كل أشكال العنف، هناك أزمة حقيقية بسبب الحصار الطويل والعنيف وأسباب ذاتية من سوء إدارة وما شابه ذلك، لا يوجد هناك معصوم أو مبعوث للإرادة الإلهية أو وكيل شرعي ووحيد للوطن، كل مجتهد يصيب ويخطئ وبعيدا عن خطاب التخوين والكراهية ونبذ الآخر هناك لغة وطنية مشتركة، لا بد من فتح الحوار ومشاركة الكل الوطني في الوقوف أمام حل المشكلات الحقيقية التي يعاني منها الناس، وأمام النموذج السوري الذي آلمنا جميعا هناك النموذج الجزائري مع بث مباشر نرى المسيرات الاحتجاجية المليونية. لقد استفادت الجزائر من تجربتها في التسعينات والتي حولت الجزائر إلى حمام دم رغم اتساع رقعتها، لم تستفد من اللبننة فأعادت نفس السيناريو، ولكنها اليوم تبدو على الأقل لغاية الآن قد استفادت من تجربتها، وأعتقد أن النموذج السوري لا يغادر عقلها الجمعي في حراكها اليوم.
واليوم نحن في غزة إما أن نمضي قدما – لا سمح الله – في تطبيق النوذج السوري فنهدم بيتنا بأيدينا ونضرب مقاومتنا من جذورها بما يريح عدونا وشياطين المنطقة، أو أن نمضي بسلمية الحراك وفتح كل قنوات الحوار للوصول إلى بر الأمان ومواصلة النضال لفك الحصار وإنهاء الانقسام وصولا إلى الوحدة الوطنية ودعم صمودنا في القدس وكل ما بتنا بأشد الحاجة إليه في مواجهة صفقة القرن والتصفية النهائية للقضية الفلسطينية.
أعتقد أن كل عاقل فلسطيني يجب أن يسخر ما يملك من أدوات التأثير من موقف أو كلمة أو حتى تغريدة على مواقع التواصل الاجتماعي في دعم ثوابت فلسطينية بتنا بأشد الحاجة إليها رغم أنها أصبحت ممجوجة عند البعض إلا أنها ستبقى المطلب الأساس لكل فلسطيني حر: المقاومة، والوحدة، ونبذ حالة استمرار الانقسام، والحوار، والحراك السلمي حق للجميع، ورفض القمع من أي فلسطيني لأي فلسطيني. فأي كلمة أو تغريدة أو موقف من السهل تصنيفه في كفة تعميق الانقسام وتغذية الصراع الداخلي وبالتالي خدمة شياطين المنطقة وما يريده الاحتلال، أم أنها في كفة الدعوة للوحدة وتصليب روح المقاومة وسلمية النسيج الوطني في هذا الوطن الغالي.
أهلنا أحبتنا جميعا في غزة لا تدَعوا (إسرائيل) تحوّل ولولتها من غزة إلى زغردة فوق رؤوسنا جميعا. أرجوكم تعقّلوا وأنصتوا إلى صوت الحكمة من حكمائكم وإياكم وصوت الشياطين المدوي في المنطقة. وطلعت انشراح التي تزغرد دائما على مصائبنا هي جناب المحروسة (إسرائيل) وكلما تزغرد دائما نجد أنه "اللي راح أحسن من اللي جاي".