"يافا، مدينة كوزموبوليتانية، أي عالمية" الجملة السابقة قالها المؤرخ، إليكس وندر، وهو أستاذ قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة، براون الأمريكية، هذا الباحث اختصَّ في تحليل مذكرات الرواد الفلسطينيين، خليل السكاكيني، نجاتي صدقي، إحسان الترجمان وغيرهم، هذا الباحث عثر على كنزٍ فلسطيني آخر لمناضل فلسطيني، خاض تجربة الاحتلال، والنضال، واللجوء، والفقر، هو ابن قرية، نوبا في الخليل: محمد عبد الهادي الشروف، كتب يومياته من عام 1943-1962 في كتابٍ صادرٍ عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في بيروت، عام 2016 حقَّقه، إلكس وندر، كتب الباحث، سليم تماري مقدمة الكتاب، هذا الكتاب أهداه إليَّ ابن صاحب اليوميات، الأخ، جمال الشروف اسم الكتاب: (بين منشية يافا، وجبل الخليل من عام 1943- 1962).
اختار الباحثُ هذا الكتاب لما فيه من كنوزٍ، تكشف الحياة الاجتماعية بتفصيلاتها، لأن كاتب اليوميات، ابن قرية نوبا عمل شرطيا في عهد الانتداب البريطاني، ثم في عهد السلطات المصرية، والأردنية، وكان يسجل يومياته في الوقت والتاريخ!, وثَّق فيها الأراضي المسلوبة من قريته. فلم يُبقِ له المحتلون سوى ستة عشر دونما فقط، بعد أن صادروا مائة وثلاثة وستين دونما من ممتلكاته الشخصية، كتب يقول: "خسر سكان قريته أكثر من نصف أراضيهم".
وصف طرد سكان القرى المجاورة، وقتلهم في بيوتهم، عام 1948م، وكأنه يردُّ على الدسيسة التي روَّجها المحتلون، بأن الجيوش العربية طلبت من الفلسطينيين إخلاء مساكنهم، لتبرئة المحتلين من الطرد قال: "هاجم المتسللون اليهود قرية خاراس، وقتلوا، إبراهيم عبد ربه جبرين، بعد أن نسفوا عتبة الباب، وأصابوا ابنه البالغ من العمر 12 سنة بالرصاص"! وصف معاناة المهجَّرين: "أكلوا أعشاب الأرض، وسكنوا في كهوف، بين الصخور."!وصف دخول الجيش المصري للخليل، بقيادة أحمد سالم باشا، يوم 5-6-1948، وكيف أن الجيش المصري قام بتطعيم السكان ضد الأمراض، كاتب المذكرات يردُّ على شائعة؛ أن الجيوش العربية هي سبب كارثة فلسطين، وليس الإرهابيين المحتلين! هذا المناضل وصف دوره في الدفاع العسكري عن الخليل، ودوره في حفظ النظام، وتحقيق السلم الاجتماعي.
ومن طرائف هذه المذكرات؛ أنه كان يرغب في الحصول على وسيلة مواصلات ليتمكن من أداء مهماته الشرطية، عام 1953 فطلب من مسؤول مجلس الإعمار في القدس، ابراهيم كعيبني، (بغلة) يركبها، وبعد جهد جهيد تمكن من الحصول على (بغلة أميرية، رقم 39)، دفع للحصول عليها 170 فلسا على الرغم من أنه موظف حكومي! هو نفسه يصف فرحته بشراء راديو فيلبس ماركة،357 ومعه بطارية جافَّة بمبلغ 29 دينارا أردنيا، مع ثمن ترخيص الراديو، بحيث يدفع القسط الأول خمسة دنانير، والباقي أقساط كل شهر ثلاثة دنانير!، وصف حتى خلافه مع زوجته، حليمة، ووصف الحياة في شهر رمضان!
لم ينسَ الإشارة إلى مباراة في كرة القدم في قريته، نوبا، ومشاهدته لمسرحية قال عنها: "حضرنا يوم 16-3- 1953محفلة تمثيل: [فتوح بلاد الشام، وموت البطل خالد بن الوليد] ببطاقات دعوة من الساعة السادسة مساء، إلى الساعة الثامنة والنصف"!
كان المناضل، محمد الشروف يرد على زعم المحتلين بأنهم جاؤوا لنشر الحضارة في بلد التخلف، فقد كانت بلادنا عابقةٌ بالثقافة والحضارة والحياة والأمل! لم ينس صاحب المذكرات الأحداث الوطنية والعربية، فأرَّخ بدقة لمجزرة دير ياسين، وأرخ لاتفاقية رودس، وقف إطلاق النار، وللعدوان الثلاثي، ولثورة الجزائر، ولزيارة الملك عبد الله، والملك حسين الذي زار قرية، نوبا يوم 24-11-1953م! وسجل إقالة الملك حسين لقائد الجيش، كلوب باشا يوم 1-3-1956 ومغادرته بالطائرة، ومعه أتباعه إلى قبرص، وكتب قائلا: "هكذا تحرر الجيش الأردني من العبودية والاستعمار"!
للأسف، سنظل ننتظر باحثا أجنبيا جديدا، على نمط، ألكس وندر، ليكشف لنا كنوزنا الوثائقية، أو يُسجِّل من أفواهنا قصص البطولات، وقصص المعاناة، على الرغم من أننا من أكثر شعوب الأرض حملا لألقاب؛ البرفسور، والدكتور، والمؤرخ، والخبير، والأستاذ الدكتور...! إن أسلحة الوثائق والمستندات في عصرنا الراهن لا تقل عن الأسلحة الحربية، بل هي أقوى، لأنها أزليَّة!