كنت شاهدًا في ليلة الموت في مشفى الرملة ، عاد المسن رزق العرعير بعد عملية قلب مفتوح إلى مشفى الرملة ، أصروا على إجراء هذه العملية في الهزع الأخير لحبسته ، سبع وعشرون سنة, تبقى لموعد حريته ستة أشهر ، رفضوا إطلاق سراحه واستكبروا وعتوا عتوا كبيرا ، كانت ليلة حزينة ، هبط ظلامها عنيفا في صدور الأسرى ساءت حالته، تحشرج صدره واضطرب قلبه طارقا جدران حبسته بآخر ما يملك من قوة وعزم، لم يسمع أحد من الإنس أو الجان طرقات الخزان وبقي يصارع الموت وحده في لهيب الهاجرة وخلف الجدران .
أخرجوه من المشفى وقلوب المرضى في حناجرهم ينظرون ويترقبون، غابوا ساعة من زمانهم الكئيب وعادوا يطلبون شرشفا أبيض ، حركة تُفهم الاسرى بأن صاحبهم قد أصبح في ذمة الله ، وكأن صاعقة عاتية قد ضربت ما يسمى مشفى الرملة في حينها ، لم نعد قادرين على الكلام أو حتى الوقوف على أقدامنا، لاذ كل منا الى مسك دموعه في مآقيها خشية من شماتة السجان ، شخصت مشاهد خروجه جثمانا مسجيا على حمالة اسعاف ثم كيف سيستقبله أولاده واحفاده وكيف سيشيع جثمانه وسط محبيه ، ونصور ايضا صورة هذا العدو الذي لا يرف له جفن وهو يمعن في الانتقام من مسنّ قضى شطر حياته في السجن ويوغل في تعميق روح العداء لدى الفلسطيني بكل الطرق الشنيعة التي يمارس فيها ساديته المفرطة .
عشرات الضحايا خرجت من ذات الخيمة ، إهمال طبي مبرمج يودي بالقتل البطيء ويرسم مشهد الجنازة بين عيني ودماغ كل أسير ، جريمة مفتوحة تصب على رؤوس مرضانا حيث كان آخر الشهداء فارس بارود بعد أن أمضى ثماني وعشرين سنة ، ورزق العرعير بعد أن أمضى سبعا وعشرين سنة ، وما بين الشهيدين ، تسعة عشر سنة وبينهما شهداء ، والسؤال : ماذا فعلنا بها لاسرانا المرضى ؟ في حينها بجهدي المتواضع أشعلت شمعة في عمق ظلام الاحتلال باصدار كتاب مدفن الاحياء الذي رصد شواهد حية من الاسرى المرضى ، ثم تحول الى فيلم بعد عشر سنوات ..
في الفيلم رصدنا قصة الشهيد جعفر عوض وتجربة الادوية لصالح شركات اسرائيلية الى أن يخرج من السجن في الرمق الاخير من حياته المعذبة ، ويستشهد سريعا بعد أن فعلت أدويتهم القاتلة فعلها في جسده .
فارس بارود صعقة جديدة لكل من كان له قلب ، صعقة جديدة علها تطلق فعلا أو متابعة صادقة وجريئة لهذا الملف الذي أمعنوا فيه قتلا وتعذيبا، فارس تجرّع الموت طويلا مع كل حبة دواء قبل أن يلقى موتته الأخيرة ، مع كل فحص (يعمل خارج السجن في غضون ساعات) يستغرق عدة سنوات ليفلحوا أخيرا بتشخيص المرض ولكن بعد فوات الامر واستفحال المرض .
لن نصف ولن نستطيع تقدير حجم الالم الذي اجتاح جسده المعذب ، فمن معرفتنا بشواهد حية كثيرة ندرك تماما أنهم أذاقوه سوء عذابهم، لم يقتلوه بسرعة فيريحوه ولم يعالجوه بانسانية لا وجود لها في قواميسهم، روحه لعنة تطاردهم وتدق ناقوس الخطر لمرضانا هناك ، هؤلاء لا يعرفون الا لغة واحدة لانهم لا يعترفون بانسانية غيرهم ، هم البشر وغيرهم أفاعي وصراصير لا تستحق منهم الا السحق والتعذيب .
لقد آن الأوان أن يفتح هذا الملف على مصراعيه عالميا وعلى الصعيدين الاعلامي والقانوني في كل المحافل الدولية ذات الاختصاص . يبقى بعد هذا الكم الهائل من شهداء الاهمال الطبي المبرمج : من وكيف ؟؟
كل من يقدر ولا يفعل على المستوى الرسمي وغير الرسمي فإنه يرتكب جريمة قد لا تقل عن جريمة المحتل ..