كتب وزير العدل السابق الأستاذ فريح أبو مدين عن إلغاء نتنياهو لبعثة المراقبين الدوليين التي أرسلها المجتمع الدولي إلى الخليل بعد المذبحة الرهيبة التي اقترفها الإرهابي اليهودي باروخ جولد شتاين في شباط سنة 1994، وراح ضحيتها 29 مصلياً في المسجد، وأكثر من ثلاثين فلسطينياً خارج المسجد، خلافاً لمئات الجرحى.
كانت المذبحة مثيرة للرأي العام الدولي قبل العربي، قال عن تلك الفترة فريح أبو مدين: حوصرت إسرائيل اعلامياً، وتوليت باسم نقابة المحامين التحقيق الفلسطيني، وكان معي الأخ الدكتور علي القواسمي، وكانت فرصه للتخلص من الاستيطان في الخليل، وكان دور اليسار والصحافة في إسرائيل مشجعا لرئيس الوزراء رابين لاتخاذ القرار، وكنت مطلعاً على موقف بعض الصحفيين الإسرائيليين، وحركة ميرتس، ودعوتهم الفلسطينيين إلى التشدد في الموضوع، والإصرار على إجلاء المستوطنين من الخليل، وكان تقريرنا قويا وموثقا ومدعوماً برأي عام ، وحددنا يوم اعلانه في القدس، ولكنني فوجئت باتصال من الاخ علي القواسمي يقول لي: إن تونس تطلب تأجيل نشر التقرير، فقلت له: لم يبلغني أحد، وأنا المسؤول عن النشر، ولا تغيير في الموقف، ولكن عند المساء هاتفني الأخوة من تونس؛ طالبين تأجيل النشر، وكان جدال صعب، الا أن دخل الرئيس أبو عمار على الخط، وأمر بعدم النشر، بعد حديث طويل لم أفهم الحكمة منه!
ويضيف أبو مدين: في نفس الليلة علمت من شخص ثقه أن رئيس الاركان الإسرائيلي أمنون ليبكن شاحك وصل تونس مع شخصيتين فلسطينيتين لهما صله بالمواضيع الأمنية، وكان اجتماع قصير، تم بعده الاتصال لوقف النشر، ولا أعلم ماذا جري؟ لكن اتفاقية أوسلو كانت قد وقعت قبل تاريخ مجزرة الخليل بستة شهور، وضاعت فرصة، وتم الاتفاق على ارسال فريق مراقبة دولي، سمي في الخليل فريق الآيس كريم، أما على الجانب الآخر، فقد منحت بندقية القاتل باروخ جولدشتاين إلى زوجته، وبنوا له مزاراً.
انتهى حديث وزير العدل السابق، ولم تنته المأساة الفلسطينية التي لما تزل تتكرر في كل يوم، وفي كل بلدة وقرية ومدينة فلسطينية، والتي تبدأ بمجزرة صهيونية رهيبة ضد الإنسان الفلسطيني وأرضه، وتنتهي بالتحايل والألاعيب السياسية، وإرسال مراقبين دوليين، أو لجان تحقيق دولية، لامتصاص الغضب، وتهدئة ثائرة المجتمع الدولي المناهض للاستيطان والقتل والاحتلال، والشواهد كثيرة، ولكن أدلها كان تقرير جولدستون، الذي أدان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة سنة 2009، وسعى إلى محاسبة الإسرائيليين على جرائمهم، لولا تدخل يد المسؤول الفلسطيني الحنونة على السكين التي تذبح الضحية، فتعمدت إهمال التقرير، وتجاهلته بقصد، وأسقطته عن جدول أعمال المجتمع الدولي الرافض للإرهاب الإسرائيلي.
لم تنته مأساة مجزرة الخليل عند حادث الذبح، فقد تحدثت البعثة الدولية في تقريرها عن أربعين ألف حالة انتهاك للقانون الدولي الإنساني من قبل الاحتلال الإسرائيلي في الخليل وحدها، من هنا جاء قرار نتانياهو بعدم التجديد لبعثة المراقبين الدوليين، لتظل المسافة بين المجزرة والمجزرة مفتوحة على كل اتساع، سيحرص المستوطنون على اجتيازه بالمزيد من اغتصاب الأرض، والمزيد من العدوان، والمزيد من فرض حقائق جديدة وعنيدة، ليس آخرها تشكيل مجلس بلدي يهودي وسط مدينة الخليل، لم تواجه القيادة الفلسطينية إلا بالمزيد من الضجيج الإعلامي، وصراخ الاستنكار والإدانة والتنديد، الذي لم يهز شعرة في جسد نتنياهو، وهو يقرأ العواقب جيداً، ويعرف أن الصمت البليد سيخيم على المشهد الفلسطيني، في انتظار العدوان الإسرائيلي الجديد، لتصدر القيادة الفلسطينية قرارها العنيد، لا للانجرار خلف العنف، وألف لا، ولا للتصعيد.