الفصل الثامن: مبادرة السادات من الوهم إلى الخيانة
يصف "خلف" مشهد هبوط طائرة السادات في مطار (تل أبيب) يوم 19 نوفمبر 1977م، فيقول: "وأنا يغمرني أملٌ مجنون في أن السادات لن يخرج من الباب، لكن خاب أملي، ذلك أن السادات ظهر تحت أضواء كاشفات الضوء كالتماعة النور في الدكنة، وهو يصافح أيدي جلادي شعبنا، ثم بدأ عزف النشيد الوطني الصهيوني، وعادت بي الذكرى إلى دير ياسين، تلك المجزرة التي نظمها ونفذها أنصار بيغن في نيسان (أبريل) 1948م، يوم بقرت بطون الحوامل، وذبح الأطفال والشيوخ ذبح هوام الأرض، وتساءلتُ: "كيف أمكن للسادات أن يصلي في المسجد الأقصى تحت حماية حراب المحتلين؟!، ولماذا كان عليه وضع أكاليل زهور عند الجندي المجهول؟!، وشعرتُ بأن الصداقة التي أكنها منذ خمسة عشر عامًا للسادات قد كُسرت؛ فسلوكه في (إسرائيل) تجاوز الحد، فقد زعم أنه يتكلم باسم الأمة العربية جمعاء وباسم الشعب الفلسطيني، ولكنه تنازل عن حقوقنا دون أن يستشيرنا، وأرخص في ثمن أرضٍ لا يملكها على حساب شعبٍ بلا وطن".
يذكر "خلف": أن الملك المغربي الحسن الثاني شجع السادات على تلك الزيارة، وأكد له أنها ستكون حدثًا تاريخيًّا، قائلًا له: "وسأكون أول من يؤيدكم"، فلطالما دافع العاهل المغربي عن رؤية مفادها أن اللقاءات المباشرة مع الخصم هي وحدها التي تؤدي إلى نتيجة.
ويضيف "خلف": "في الثامن من نوفمبر دُعي عرفات عاجلًا للقاهرة، فوافاها، واستقبله نائب السادات، حسني مبارك، وأبلغه أن الرئيس يدعوه لسماع الخطاب الذي سيلقيه غدًا أمام مجلس الشعب، في الخطاب مدح الساداتُ عرفاتَ كثيرًا، ثم سردَ الجهود التي بذلها عبثًا للتوصل إلى تسوية عادلة في الشرق الأوسط، ثم هتف: "أنا مستعدٌّ للذهابِ إلى أي مكانٍ، حتى (إسرائيل)، إذا كان ذلك سيساعد على التوصل إلى السلام"، فتوجهت كاميرات التلفاز صوب عرفات الذي كان يجلس مكتوف اليدين، فعُدنا لبيروت وعرفات مقتنع بأن ما كان من أمر السادات ليس سوى شحطة خطابية، لكن ذهبتُ أنا إلى عده دعاية ماهرة مخصصة لأغراض الاستهلاك الخارجي، ودعوتُ لمهاجمة السادات والدول التي تؤيده، وكنت أعلم أن حملتي عكس التيار، فالرأي العام العالمي في مجمله معجب بجرأة السادات، ويمكن القول إن حسابات السادات بدت في مرحلة أولى كأنها صحيحة؛ فقد كسب الرأي العام العالمي، وحيّد جزءًا من الرأي العام العربي، ودعم مركزه في مصر، فاقنع مواطنيه بأن الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهونها ستختفي بسحر ساحر، إذا ما استقر السلام في الشرق الأوسط، وأقنع جيشه بأن مرد قصور تجهيزه ونقص تسلحه هو سوء نية الاتحاد السوفياتي، غير أن التجربة برهنت على أن السادات بنى إستراتيجيته على رمال متحركة، أما نحن فإننا كنا منطقين إزاء مبادئنا وتحليلاتنا؛ فرفضنا الذهاب إلى اجتماع الخبراء الذي عقد بالقاهرة في ديسمبر 1977م، قبيل قمة الإسماعيلية التي أضاف فيها الساداتُ رئيس الوزراء الصهيوني "مناحيم بيجن"، لكننا شاركنا في مؤتمر طرابلس بمبادرة من القذافي، لتشكيل جبهة ضد السادات، هي: ليبيا والجزائر وسوريا والعراق وجمهورية اليمن الديمقراطية، غير أن المؤتمر كاد يفشل إذ لم يتوصل المشاركون فيه إلى تأليف جبهة موجهة ضد السادات، فجمعتُ القادة الفدائيين الحاضرين لإعداد برنامج مشترك نقدمه لرؤساء الدول العربية، فوافق "جورج حبش" على أن تدعو الوثيقة إلى إنشاء دولة فلسطينية على كل جزء من الوطن المحرر، ووافقت أنا مقابل تنازله هذا على أطروحته التي تقضي بألا تتفاوض منظمة التحرير مع (إسرائيل) وألا تعترف بها قانونيًّا، وهكذا ولدت جبهة "الصمود والتصدي" رغم انسحاب الوفد العراقي".
الفصل التاسع: تحدي السلام
يقول خلف: "في لقاء أضافت فيه جامعة بيروت العربية قادة تنظيمات منظمة التحرير لشرح مواقفهم من دعوة السادات للسلامٍ، أثنت على حرب أكتوبر -مع تحفظاتي عليها- وأكدت أنها أوجدت وضعًا جديدًا في الشرق الأوسط يستدعي قرارات جديدة، وإنهاء سلبية الماضي، فـ«لا» التقليدية في الحركة الفلسطينية ليست ثورية وجوبًا، ولا «نعم» شكل من أشكال الخيانة بالضرورة، فقد يكون الرفض هروبًا من المشاكل وتزيي بزي النقاء العقدي المنحول، ثم عدّدت القرارات التي اتخذتها قيادة فتح، وهي عدم التخلي عن حق الشعب الفلسطيني في تحرير وطنه وتقرير مصيره، وإقامة سلطة وطنية على كل جزء يحرر من فلسطين".
يذكر خلف: أنه سأل الحاج أمين الحسيني قبل وفاته بثلاثة أشهر: "لماذا رفضتم فكرة أخذ أي شيء، إذا لم تحصلوا على كل شيء؟"، فكانت الإجابة بأن دولًا عربيةً أعاقت تأسيس دولة في الضفة الغربية وغزة، من تلقاء نفسها أو تحت ضغط الإنكليز، وملك الأردن عبد الله لم يؤيد إقامة كيان فلسطيني لأنه يرغب في ضم الضفة إلى مملكته، وهذا ما فعله بعد حرب 1948م، وبعد حديث مطول بينهما قال "خلف": "إن وثائق المحفوظات الفلسطينية التي تفحصناها من كثب لم تعزز أطروحة الحسيني، مع أن له ولصحابته رؤية إستراتيجية للمستقبل الفلسطيني، إلا أنهم افتقدوا افتقادًا طاغيًا الصفات الضرورية من أجل القيام بتنازلات تكتيكية، وهذه بالضبط هي الثغرة التي حاولت فتح أن تسدها".
ويستمر "خلف" في شرح وجهة نظر فتح في الدخول إلى معترك السلام مفرقًا بين التسوية والتفريط، مستشهدًا بأن قادة الثورة الفيتنامية قبلوا في أثناء مؤتمر جنيف لعام 1954م تقسيم وطنهم إلى دولتين بانتظار أن يواتيهم ميزان القوى، فقال: "إن الثورة الفلسطينية لا تستطيع الاعتماد على أي بلد عربي لتضمن لنفسها ملاذًا آمنًا وقاعدة لعملياتها ضد (إسرائيل)؛ فلابد لنا من المضي نحو المجتمع الديمقراطي التعددي الذي نحلم به، وهو إقامة دولتنا الخاصة، ولو على بوصة من فلسطين، وقد ازداد انتشار وتقدم هذه الفكرة لدى قاعدة الحركة، بعد أن أعلن الملك حسين في 15 مارس مشروعه الخاص بالمملكة العربية المتحدة الهادف إلى خلق مملكة على ضفتي نهر الأردن، تشتمل على إقليمين متحدين، هما الأردن وفلسطين".
خطوة فتح أدت إلى تشكيل جبهة رفض ضدها متهمة إياها بالخيانة، لكن "خلف" يقول: "نجحنا في إدخال ما نسميه "الحوار الديمقراطي" إلى عادات المقاومة، ثم دارت محادثات عام 1974م مع قادة التنظيمات الأخرى، وتوصلنا إلى إعداد برنامج ذي عشر نقاط، تبناه المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد بالقاهرة في شهر يونيو من السنة ذاتها، إذ أعلن ممثلو الفدائيين كافة بالإجماع إرادتهم إقامة دولة مستقلة على كل جزء أو أي أراض فلسطينية تحرر، مضيفين بعد ذلك أن الهدف الإستراتيجي لمنظمة التحرير الفلسطينية يظل بناء دولة ديمقراطية على كامل الوطن الفلسطيني، غير أن هذا الإجماع الرائع لم يدم، يا للأسف!؛ فقد انتصر المتطرفون على المعتدلين".
الخاتمة:
"دقت ساعة تقديم كشف الحساب، إذ قد مضت ثلاثون سنة على خروج الشعب الفلسطيني، وعشرون سنة على تأسيس فتح، ولابد لي من الاعتراف بعميق المرارة بأن وضعنا اليوم هو أسوأ من الوضع الذي دفعنا عام 1958م إلى إنشاء حركتنا، بل إني أخشى حقًّا أن يكون لابد من عود على بدء".
ما سبق هو بداية خاتمة رحلتنا مع (فلسطيني بلا هوية)، لكن "صلاح خلف" مع ذلك يؤكد افتخاره بما حققه الشعب الفلسطيني وقيادته، التي انتزعت صفة مراقب في الأمم المتحدة.
يذكر "خلف" أن فتح حافظت رغم العوائق على استقلالها الذاتي، وتوزيع مواردها وعلاقاتها، مستفيدة من التناقض السياسي الملازم للمنطقة، وقال: "إننا أخطأنا حينما:
1_ عقدنا تحالفات مع أنظمة عربية ظننا أنها إستراتيجية، لنكتشف لاحقًا بعد دفع الثمن أنها ليست سوى تحالفات عارضة جدًّا، مثلما حدث مع مصر.
2_ عززنا العلاقة مع الأنظمة العربية على حساب الجماهير الرافضة أنظمتها، وهنا وقعنا في تناقض مع مبدأنا أن المصدر الحقيقي لقوتنا هو التعاطفات الشعبية.
3_ أخطأنا بدخولنا في منظمة التحرير الفلسطينية عام ١٩٦٨م؛ لأننا بذلك غلبنا عليها البيروقراطية، وخسرنا من النضالية ما ربحناه من الاحترام؛ فقد بتنا نتذوق التفاوض مع الحكومات ونأخذ آراءهم وتمنياتهم، لخشيتنا أن يتهمنا الدبلوماسيون المحترفون بـ"الإرهابية والمغامرة"، لذا كنا نسرع لنثبت بأي ثمنٍ كان "اعتدالنا"، ناسين أن ذلك لا يمثل من حيث المبدأ مرتبة الأولوية في رسالتنا، وأصبح الجميع ينظرون إلينا سياسيين بأكثر مما ينظرون إلينا ثوريين، وهذه النظرة أضرت بنا أمام الجمهور العربي الذي كان ينتظر منا شيئًا آخر.
4_افتقرنا للخبرة والأدوات اللازمة في حقل العلاقات العامة، وهذا نتيجة جهلنا بالمجتمع الغربي؛ لتعقيد الآليات الديمقراطية التي تحكمه، ولم نميز بين سياسة الحكومات والشعوب.
5_ فشلنا في توحيد الحركة الفلسطينية أو الحد من تجزئتها.
لكن على أخطائنا لابد أن يقال إبراء لنا: إننا اضطلعنا بمهمةٍ لا سابق لها في صعوباتها في التاريخ؛ فنحن نقود حركة لا تتمتع بحكم الأشياء بقواعد متشابكة، فالفلسطينيون الذين نسعى إلى تعبئتهم مبعثرون جغرافيًّا، متغايرون نفسانيًّا، ومتنافرون سياسيًّا، ويعيشون تحت أنظمة سياسية واجتماعية مختلفة، وأحيانًا متناقضة، وتؤثر بالضرورة في تصوراتهم، وهم يخضعون للنزاعات التي تقوم بين الدولة والمقاومة، فينضون طواعية أو كرهًا تحت الأطروحات الرسمية، أو يلوذون بحيادٍ ظاهر ليفلتوا من ردود الفعل الانتقامية المحتملة، ونحن مجبرون من جهتنا على مهاودة الحكومات العربية لنعفي مواطنينا من هذه المخاطر، ومضطرون إلى إغماض أعيننا عن السلوك غير الودي الذي كنا -لولا هذه الناحية- سننهض ضده، وهذا الأمر يحد بصورة ما من حريتنا في الحركة.
وعلى هذا إنه لا ينبغي الاندهاش من حجم ومدى المواقف الظاهرة التناقض التي نتبناها وفق هوية من نتفاوض معه من هذا النظام أو ذاك؛ فنحن أشبه بالمسافر الذي ينتقل من نصف المعمورة إلى نصفها الآخر، فيضطر إلى اصطحاب أمتعة الشتاء وثياب الصيف ليحمي نفسه من التقلبات المناخية الشديدة الاختلاف، وتلك ليست انتهازية كما يتهمنا بعض، بل تدابير حماية الذات".
ثم يضيف: "إن ما ذكرناه لا يبعث الأمل، لكن دوري ثوريًّا بث الأمل في نفوس شعبي، وعدم خداعهم، وأقولها بصراحة: لا أعتقد أن جيلي سيحظى بفرحة رؤية ولادة دولة مستقلة حتى على جزءٍ متناهي الصغر من فلسطين، ولا يمكن تصور دولة ذات سيادة حقيقية، إلا إذا أسسها وحكمها أولئك الذين قادوا حركة التحرر الوطني منذ عشرين عامًا، كما لا يمكن إقامة سلام دائم دون ممثلي الشعب الفلسطيني الحقيقيين".
لكن مع تلك الرغبة يقول خلف: "وبطبيعة الحال ليس ثمة أمرٌ محتوم سلفًا؛ فهناك من التقلبات والمتغيرات في الظرف الدولي والمنطقة أكثر مما يمكننا التنبؤ به للمستقبل، لكني أتمنى أن تكذب الأحداث تشاؤمي على المديين القصير والمتوسط، وإذا كنت لا أستثني إمكان انتصار قريب؛ فإنني لا أستبعد فرضية حدوث شلل أو تدمير حركتنا، وتلك لن تكون أول مرة ولا آخر مرة تنجح القوى الرجعية الجاهلية في إجهاض ثورة".
ونختم رحلتنا مع صلاح خلف بما ختم به خاتمة كتابه إذ قال: "غير أن شعبنا سيلد ثورة جديدة، وينجب حركة أعظم بأسًا من حركتنا، وقادة أكثر دراية وتجريبًا وأشد خطرًا على الصهاينة؛ فإرادة الفلسطينيين التي لا تُرد في مواصلة المعركة -مهما كانت الظروف- هي حقيقة لا تأتيها الريبة من بين يديها ولا من خلفها، بل إنها إرادة تمليها طبيعة الأشياء، ونحن عازمون على البقاء شعبًا، وسيكون لنا ذات يوم وطن".
وهنا أسأل أنا معد هذا الملخص -إن جاز لي السؤال- أتراه كان يقصد حماس؟