يجب أن نتفق أولاً على تعريف مشترك للمشروع الذي أطلقت عليه الإدارة الأمريكية، اسم «صفقة القرن»، فيما يتعلق بإيجاد حلول نهائية للأزمة السياسية الكبرى المتوارثة، عن بقايا الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن العشرين، وهي قضية فلسطين.
وفي هذا المجال لا بد من التأكيد على أنه إضافة للدور المؤسس لدولة بريطانيا في التحضير المبرمج والممنهج لإنشاء دولة «إسرائيل»، بعد قضاء ثلاثين عاماً في تحويل ملامح فلسطين، من وطن متوارث لأغلبية كاملة من عرب فلسطين المسلمين والمسيحيين، إلى وطن يهودي، تطبيقاً شيطانياً للمشروع السياسي البريطاني (والأوروبي) الذي تم التعبير عنه في الرسالة الشهيرة المقتضبة من اللورد البريطاني بلفور إلى الزعيم الصهيوني روتشيلد المعروف باسم «وعد بلفور»، ولكن بعد هذا الدور البريطاني المتميز، في مرحلة التحضير المباشر لإنشاء دولة «إسرائيل» على أرض فلسطين، وعلى حساب وجود شعب فلسطين الأصلي وكل حقوقه الإنسانية والسياسية، فإنه عندما دقت ساعة التأسيس المكتمل للمشروع، بعد أن جلس الحلفاء الغربيون على عرش الانتصار الكامل والساحق للحرب العالمية الثانية، فإن الدور الأساسي انتقل من بريطانيا (في مرحلة التمهيد من 1917 إلى 1947) إلى الولايات المتحدة في مرحلة التأسيس الفعلي في منتصف القرن العشرين (1948).
أما بعد ذلك، ومنذ التأسيس حتى يومنا هذا، فقد انفردت واشنطن بالدور الأساسي في رعاية وحماية ودعم الدور المعقد الذي ولدت «إسرائيل» لتلعبه في المنطقة العربية، التي أطلق عليها الغرب المنتصر اسم منطقة الشرق الأوسط. وعلامات هذا التفرد الأمريكي، ظل سائداً وساري المفعول في عهود كل الرؤساء الأمريكيين.
إلى أن وصلنا إلى الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، الذي سجل في الانتخابات الرئاسية فوزاً بالغ الغرابة والمفاجأة على المرشحة الديمقراطية صاحبة الحظ الأوفر في فرص الفوز.
ومع أن هذا الفائز الجديد المفاجئ لم يكن له أي ماضٍ سياسي معروف، ومع أنه قادم مباشرة من عالم الأموال والاستثمارات، فقد كان بين بنود برامجه التي كان يعلن عنها في دعايته الانتخابية، الإعلان عما سمي «صفقة القرن» لحل فوري وسحري وعجائبي لمشكلة قضية فلسطين،
لقد تصور البعض أن «صفقة القرن» هذه، ممكن أن تولد ذات يوم قريب، في عهد ترامب عبر مؤتمر دولي، تدعو إليه الولايات المتحدة مختلف دول المجتمع الدولي، لإيجاد حل نهائي متدرج لقضية فلسطين، بعد الاتفاق على بنوده ونقاطه التفصيلية.
لكن الذي ظهر فيما بعد أن العنصر الوحيد في هذه الصفقة، ليس كل أطراف القضية الأصليين (وعلى رأسهم شعب فلسطين صاحب القضية الأصلي)، بل الإدارة الأمريكية، وأن ما سمي «صفقة» ليس سوى برنامج مختصر ومباشر، للرئيس الأمريكي الجديد، يفرض بالقوة العسكرية والسياسية، والدبلوماسية والإعلامية، حلاً أمريكياً صهيونياً للقضية، عن طريق تصفية كل ما يمت بصلة لوجود شعب فلسطين، صاحب القضية الأصلي، وجميع حقوقه.
ولم ينتظر الرئيس الأمريكي الجديد، انعقاد أي شكل من أشكال المؤتمرات الدولية، لإعلان بنود «صفقة القرن» المقترحة، بل بدأ بشكل متفرد ومتسلط، ومفاجئ للجميع بمن فيهم الحركة الصهيونية نفسها، وإدارة «دولة إسرائيل»، ابتداء بالخطوة الأولى، التي تبلورت في الإعلان الأمريكي بأن القدس (خارج كل القرارات الدولية السابقة، وخارج الحقائق التاريخية الثابتة) هي عاصمة الكيان «الإسرائيلي» وحده، لا شريك لها فيه.
بعد ذلك، تسارعت الخطوات التي كان ثانيها إهالة التراب على ما سمي بحل الدولتين، وإهالة التراب على ما يعرف بحق العودة للفلسطينيين، وقد تم كل ذلك بخطوات عملية تقضي بالاعتراف العملي الكامل بكل مشاريع الاستيطان الصهيوني للضفة الغربية، استكمالاً لحرب 1967، التي جاءت تكمل في المشروع الأمريكي نتائج حرب 1948.
هكذا إذن اكتمل كل شيء، وأدت الولايات المتحدة كل ما عليها لتصفية القضية نهائياً.
ومع ذلك، ما زالت عملية الخداع التي حملت اسم صفقة القرن مستمرة، لكن الإدارة الأمريكية فاتها أمر جوهري وأساسي، هو الحصول على اعتراف وتوقيع شعب فلسطين، على التنازل عن وجوده وعن كامل حقوقه.
إنها لحظة اصطدام «صفقة القرن» بجدار المستحيل، في الضفة الغربية وغزة وحتى في الداخل المحتل.