فلسطين أون لاين

​الغريق "أبو سيدو".. 50 دولارًا حالت بين النجاة والموت

...
لوريس– غزة/ يحيى اليعقوبي:

حتى البحر يمكن أن يتغير في لحظة؛ فيصبح الموج الهادئ هائجًا، ستمثل فرصة النجاة بقارب مطاطي "مهترئ" أغنى بطون المهربين والوصول لبر الأمان "معجزة"؛ لن ينسى كل شخص مر بهذه التجربة كل ثانية ودقيقة أبحروا فيها دون "ربان" لتلك السفن، ستبقى سير الغرقى تروي حكاية اختلطت بها مياه البحر بالدماء وبأنفاس من احتضنتهم، رحلوا إلى السماء وبقيت أحلامهم بين تلك الأمواج، كحال الشاب حسام أبو سيدو من قطاع غزة.

17 يناير/ كانون ثاني 2019م، مواقع الأرصاد الجوية على مواقع التواصل الاجتماعي أعطت إشارات بإمكانية الإبحار، صاحب هذه القصة الشاب حسام أبو سيدو (20 عامًا) وجد أنها الفرصة المناسبة لمغادرة مدينة أزمير بعد وصوله لتركيا قبل شهر ونصف، والسفر واللحاق بأصدقائه لليونان الذين سبقوه في رحلة قبل أسبوع، وكان مفترضًا أن يذهب معهم فيها لكن 50 دولارًا كانت عائق التأخير.. ترى ما قصتها؟ وكيف أخرته؟.

عقارب الساعة تشير إلى التاسعة والربع مساء يوم الخميس، تحرك أخيرًا حسام بمفرده من مدينة أزمير بواسطة حافلة إلى مدينة ديدم التركية (يروي صديقه مؤمن الجمل "29 عامًا" التفاصيل لصحيفة "فلسطين") وصلت الحافلة الساعة الواحدة والنصف فجرًا، وبعد نصف ساعة انطلق مع نحو 41 مغتربًا كلهم من قطاع غزة بينهم عائلات وأطفال وحتى سيدة مسنة من القطاع باستثناء أربع شبان مصريين انطلقوا باتجاه جزيرة "فارمانكونسي" وهي جزيرة يونانية عسكرية.

"كنت في جزيرة لوريس اليونانية أنتظر وصول حسام على أحر من الجمر، كان سعيدًا جدًا أنه استطاع أخيرًا الإبحار والوصول إلينا".

50 دولارًا وطمع المهرب؟

لم يكن يعلم، الجمل الموجود في جزيرة لوريس منذ عامين، أن صديقه حسام رفض الذهاب بالرحلة السابقة قبل أسبوع مع أصدقائه نتيجة عدم توفر خمسين دولارًا لإكمال المبلغ المطلوب الذي طلبه المهرب ثمنًا للرحلة و يبلغ ( 550 دولارًا)، رفض ذلك المهرب أخذ كل ما يملكه حسام (500 دولار)، يقول الجمل: "كنت أتواصل معه وألح عليه بالسفر مع أصدقائه لكنه رفض، تفاجأت أن كل التأخير سببه 50 دولارًا فقط رفض المهرب مسامحته بها".

انطلقت الرحلة الساعة الثانية فجرًا، كان الموج هادئًا، الرياح وكأنها ساكنة مقيدة بلا حركة، السماء تكتسي باللون الأسود، هل تعلم أن هذه الرحلة يسير بها المغتربون والمهاجرون بلا "قبطان أو سائق" للقارب، وكأن أرواحهم بلا قيمة عند المهربين كحال حسام ومن معه، يكمل صديقه: "كان أحد المغتربين هو من يقود المركبة هكذا يتم الاتفاق بين المهربين والمسافرين، وبعد إبحار دام نحو ساعتين بقيت عشرات الأمتار تفصل الرحلة عن الوصول لجزيرة "فارمانكونسي" الصخرية (بلا شاطئ)".

جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، فجأة ارتفع منسوب المياه وزادت حركة الرياح، فقد الشاب المهاجر الذي يقود المركبة لأول مرة في حياته، السيطرة على القارب المطاطي الذي يندفع يمينًا ويسارًا، وسيطرت الرياح على القارب تدفعه كيفما تشاء.

"اتفق الشباب الذين يجيدون السباحة بالقفز في المياه من باب تخفيف الثقل، ليوجهوا القارب بعكس اتجاه الرياح، لكن موجة قوية جاءت ودفعت القارب المسمى "البلم" باتجاه الصخور وأعادته للخلف لنحو عشرة أمتار" يقول.

شباب تقفز للمياه، بعضهم يحاول النجاة بنفسهم، والبعض الآخر يحاول مساعدة وإنقاذ زوجته أو طفله، القارب مثقوب ومكسر، بالونات الإنقاذ ابتعدت بفعل الرياح والأمواج عن الغرقى، الجميع تعرض لإصابات من الصخور.

"هينا مرميين، البلم خبط بالصخر وانبعط اللي (..) ايده وراس دمه" يناشد أحد الغرقى باتصال مسجل مرئي جمعية الانقاذ، والتي نشرت شريط فيديو له، كانت كفة يديه مليئة بالدماء.. بصوت مرتفع يصرخ: "حتى الآن الناس تحت بالمية في نساء واحنا على الصخر مش عارفين نعمل اشي .. في ناس مفقودة وناس مرمية بتنزف" بجواره يصدر صوت أحدهم: "يا عمي متنا من السقعة".

الكل سجل الحضور

تأخرت فرق الإنقاذ، واستمر الشباب في إنقاذ الجميع، وبقيت مسنة من غزة بين الحياة والموت كادت في آخر اللحظات تستسلم لمياه البحر ولكن استطاع أحدهم بشجاعة إنقاذها.. "صعد الجميع على الجبل وأوقدوا نارًا، كان الكثير منهم ينزفون بسبب الارتطام بالصخور، وبدؤوا بتفقد أسماء بعضهم، أعطى الجميع نداء الحضور إلا واحدا وهو حسام أبو سيدو، وبدأت عملية البحث عنه" يقول صديقه.

بعد عدة محاولات للبحث استنتجوا أنه غرق، لم تنتهِ هذه الرواية التي تدون قصة صعبة من حكاية الغربة واللجوء: "تأخرت قوات خفر السواحل نتيجة اتجاهها لإنقاذ قارب لم يغرق كان بمسافة أبعد من الجزيرة عن القارب الذي وجد به حسام ومن معه وصدرت منه إشارة الاستغاثة".

اتجهت القوات بأربع مروحيات وقاربين كبيرين نحو القارب وأجلوا من فيه، وخلال عودتهم شاهدوا النار وأصوات الاستغاثة وذهبوا إليهم وبدؤوا بالبحث عن حسام وبعد عدة ساعات استطاعوا إخراج جثمانه بواسطة غطاسين، وكان قد ارتطم رأسه بالصخور فأفقده الوعي مما أدى لغرقه.

وأخيرًا دفن

وكأن لا يمكن لهذه الرحلات أن تنتهي بسلام، هي رحلة مجهولة، لا يوجد ضمان حتمي للنجاة، خرج حسام جثة هامدة، بحث عن لقمة عيش وفرصة عمل لم يجدها في شوارع وأزقة قطاع غزة، دفع 1600 دولار للخروج في ملف التنسيقات من معبر رفح، بات في المعبر ثلاثة أيام في ليال باردة، وعاش شهرًا في تركيا بانتظار إذن الإبحار باتجاه اليونان ومنها إلى بلجيكا، فكان حلمه أن يسافر إلى أخيه محمد في بلجيكا (الذي غادر قبل عامين) لعله يجد تلك الفرصة التي لم يجدها في غزة، وهو لم يدر أن مياه البحر كانت بانتظاره.

أين دور سفارة السلطة باليونان؟ سؤال يطرحه صديق حسام قائلا: "مفروض أن تتكفل السفارة بنقل جثمانه لبلاده، لكننا لم نر أي دور لها، ولم يزرنا أي وفد منهم".

هناك كل شيء وكل خطوة لها مقابل مادي، طلبت السلطات اليونانية أكثر من 3 آلاف و500 يورو لنقل جثمانه لمصر، وبعدما قررت العائلة دفنه باليونان طلبت جزيرة لوريس كذلك ألف يورو مقابل دفنه، "استطعنا في النهاية دفنه في جزيرة "كيوس" بدون تكاليف، عشنا موقفًا صعبًا لم نجد لا سفارة ولا أي مسؤول فلسطيني رسمي يقف بجانبنا.. وأخيرا دفن"، أخرج تنهيدة يقطر بها الحزن من صوته وبهذا ختم صديقه.

في مراسم بيت العزاء بمدينة غزة، كانت علامات الصدمة بادية على وجه شقيقه الأصغر كريم (17 عامًا) الذي روى جزء من التفاصيل السابقة لنا، خبر لم تتوقعه العائلة أسكن الحزن في هذا البيت، فلم يعد لا حسام ولا حتى جثته.. "راح أطفي وأطلع على اليونان وتقلقيش الصبح بكلمك" هذه آخر رسالة مسجلة أرسلها حسام لوالدته، لكن شمس الصباح أشرقت حزينة على قلب أمه التي فقدت آثارها، حتى علمت بالنبأ الذي كانت تخشى حدوثه وتتمنى ألا يأتيها.

الزميل يحيى اليعقوبي خلال حديثه مع كريم شقيق الغريق

الغريق حسام أبو سيدو