فلسطين أون لاين

يا معشر المعتمرين انظروا في فقه الأولويات

بعيدًا عن السياسة وأين يذهب حصاد رسوم العمرة، إلى هذه الألوف المؤلفة التي تنطلق من فلسطين المنكوبة إلى الديار الحجازية لأداء العمرة وأغلبهم في رصيده عدة عمرات وتستهويه هذه الرحلة، فإذا كان الأجر هدفه فهل فكّر أيهما أكثر أجرًا؟ تفريج كربة عائلة لا تجد ثمن جرّة غاز أو طالب علم على حافة الطرد من الجامعة لتراكم الأقساط عليه أو لربّ بيت مهدد بقطع الماء أو الكهرباء أو كليهما أو غارم قد أثقلته ديونه، أو أرملة تعيل أيتامًا ولا تجد ما يسد احتياجاتهم الأساسية أو...

ذكر الناطق الرسمي لسلطات الاحتلال أن عشرة آلاف معتمر غادروا الضفة الغربية هذا الموسم، لنحذف منهم المعتمرين أول مرة، يبقى ثمانية آلاف، تكلفة المعتمر الواحد 600 دينار، فلو قسمناها على ألف دينار معدل الأقساط السنوية لطالب الجامعة، بهذا المبلغ ندفع عن 4800 طالب أقساطهم الجامعية. إذًا لا يبقى طالب فقير دون أن ندفع عنه ونفرج كربته وكربة أهله بدل رحلة يتم الوصول إلى عكس مرادها هذه الأيام! كيف ذلك؟

الهدف من العمرة زيارة المكان الذي تم فيه تحرير العرب من عبادة الأصنام إلى عبادة الله، والدوران حول فلك واحد وهو الكعبة كتدريب عملي على الدوران حول أفكار الرسالة السماوية التي تسمو بروح الإنسان وترتفع بقيمه وأخلاقه وأفكاره وأهدافه. أما العمرة هذه الأيام فإن الدول التي يمر من خلال بواباتها المعتمر فإنها تقوم بتدجينه وترويضه وتمارس عليه طقوسها وإجراءاتها التي من شأنها أن تجعل منه طيّعا ليّنا لا يخرج قيد أنملة عن سياساتها وتغريداتها التي لا تخرج عن هوى المستعمر في بلادها، على المعتمر أن يمشي دربهم وأن يغرد داخل سربهم وأن يحاذر من أي كلمة أو همسة، فهو محاط بعسسهم الذين يسمعون ما توسوس به نفسه، يشعر المعتمر إذا دخل ديار دولة يمر من خلالها أن عليه أن ينحني لصنمها وأن يراعي تعاليم ربها وأن يمسك لسانه جيدا ويلتزم بدرب الاستبداد والاستضعاف والاستحمار، هذا إذًا أحب أن يعود إلى أهله سالما غانما..

عن أي عمرة يتحدثون وهي التي كانت في الأصل كي تحرر الإنسان وتجعل منه عبدًا خالصًا لله فإذا بها تسهم في جعله عبدًا ذليلًا لسياسات أرذل خلق الله دون أن يتمكن من التفوه بكلمة لا تروق لهم في مكان جُعل لتحرير العباد من كل أشكال الأصنام.

نعود إلى أولويات الإنفاق بعيدًا عن السياسة التي لا نستطيع البعد عنها ولا هي تبتعد عنا أبدًا، فقد ورد في الأثر أن عبد الله بن المبارك الذي كان مع تلامذته في الطريق إلى الحج فوجدوا فتاة معدمة تبحث في مزبلة ما يطعم إخوتها الأيتام.. فدفع لها ما معه وأمر تلامذته بذات الفعل، ثم قفل راجعًا وقال لهم: لقد أدركتم الحج هذا العام (حج وليس عمرة)، وكان بإمكان هذا العالم الجليل أن يتصدق ببعض ماله وان يطلب من تلامذته ذات الفعل فتعود الفتاة بما يسد حاجتها ويستمر النفر الصالح في طريقه إلى الحج مزهوّين بما فعلوا، الأمر يختلف عند من يدرك فقه الأولويات، فالصدقة تحرير لذات المتصدق من هواها وشحها وتحرير للمتصدق عليه من آفات الفقر والعوز والارتهان للمستكبرين.. أما أداء العمرة فتحرير لذات المعتمر هذا عندما بالفعل يعيش لحظات التحرر التعبدية في منشأ حرية الإنسان مهد الدين الإسلامي لا ما هو عليه واقع الحال.

لو صعد اليوم عالم معروف بسعة علمه في دين الله لحافلة تقل معتمرين وعرض عليهم قائمة طلبة جامعة من الذين أثقلتهم الأقساط، وشرح لهم فقه الأولويات في الإسلام، ثم قال لهم أدركوا عمرتكم بتسديد هذه الأقساط وحرروا أنفسكم من عمرة منزوعة الحرية والعبادة التي أمر الله بها، فكم من الناس من يفقه فقه الأولويات وفقه العبادة؟! أستذكر قول الإمام علي: لا خير في صلاة لا فقه فيها ولا خير في تلاوة لا تدبر فيها.